ما أعرفه، أن علاقة مصر بغالبية دول العالم جيّدة، وربما هناك اتفاقيات مشتركة لتبادل المجرمين، ولكنى لا أعرف لماذا حتى الآن، لا يتم تفعيل هذه الاتفاقيات بين جمهورية مصر الجديدة، وجمهورية شرم الشيخ الصديقة؟ ولا أفهم حتى الآن، سرّ سكوت المجلس العسكري، وحرصه على تطبيع العلاقات الأخوية، مع الجمهورية الصديقة. صحيحٌ، وكما يشيع البعض، فإن العلاقات بين الجمهوريتين الشقيقتين، على ما يُرام، طيلة سنوات عديدة، خطوط مفتوحة، ورحلات متبادلة، وزيارات أخوية مستمرة، ولكن شتّان ما بين البلدين، الأولى.. خارجةٌ للتوِّ من ثورة تاريخية، وتعيش حالة مخاض تحاول فيه معالجة كوارث 30 عاماً تحت حكم الرئيس المخلوع، ووضعها غير مستقر حتى الآن، بعض الاحتجاجات الفئوية، ركود اقتصادي، وأحاديث عن ثورة مضادّة، آخرها ما حدث فى موقعة "الجلابيّة" فى استاد القاهرة، بينما فى الثانية.. الأوضاع مستقرة تماماً، الشوارع هادئة، وكل الطائرات تهبط من وإلى المطار الوحيد، حاملةً من كل الجنسيات ما يمكن اعتباره تشجيعاً للسياحة فى الجمهورية الصديقة.. وقبل هذا وذاك، أنها أصبحت مستقراً للعائلة "المباركة" التى أصبحت قيد اللجوء السياسى بعد طردها من كل القصور الرئاسية فى مصر! لقد كانت الجمهورية الشقيقة، تعنى لي، وللملايين من الجالية المصرية، فى مصر العربية، ترفاً لم أستطع بعد الحصول على تأشيرة لزيارتها، هرباً من شواطئ الغلابة، التى تئنّ من الأجساد المتعبة، والحالمة بأى "شوية ميّة" ولو كانت مخلوطة بمياه الصرف الصحّى، فما بالنا بشواطئ الأجساد البرونزية والشعب المرجانية، فى شرم والشاحل الشمالى، وغيرها من المقاطعات المكتوبة للأغنياء، فقط، فى العصر "المباركي" الذى ذهب بكل الحسنات، ولم يستطع أن يدارى السيئات والسوءات. قد يتهمنى البعض، بأننى من الحاسدين والمأجورين، الحاقدين على أغنياء الحديد والأراضى الجدد، لكنى "والله العظيم تلاتة" ليس بينى وبين جمهورية شرم الشيخ الشقيقة أى عداءٍ أبداً.. بالعكس، أتمنى أن تكون علاقاتنا فى العاصمتين الشقيقتين على أسس جديدة، تحترم التطهير المتبادل، وألا يكون فى أحدها ما يمكن اعتباره من أعمال العدوان أو الاستفزاز. جمهورية شرم الشيخ بالذات، تعتبر بالنسبة لي، استكمالاً لمرحلة التحرير القديمة التى بدأت من سيناء قبل أربعين عاما، وتحتاج إلى إعادة تحرير مرّة أخرى، وأذكر أن المرة الوحيدة التى ذهبت فيها إلى سيناء، كانت عقب اغتيال الرئيس السادات، حيث كنت ضابط احتياط بالجيش المصري، وتحديداً فى إدارة الشؤون المعنوية، ذهبت لنجدة بلدياتى العسكرى رزق ، فى أبو رديس لأنه كان مريضاً، تخيلت هذه الرمال على جانبى الطريق، وقد اكتست بالدبابات وبالتضحيات، واخضرّت بحرب التحرير، بنفس الدرجة التى تخضّبت فيها بالدم والجسد، فجمهورية شرم الشيخ، كانت حتى وقت قريب، أقل من 15 عاماً، قطعة من الأرض التى تحررت بالروح والدم، ولكنها للأسف، حُرّمت على المصريين، الذين وجب عليهم أخذ تأشيرة عبور لبلدهم، بينما الإسرائيليون كمثال، يسرحون ويمرحون فيها باسم السلام الذى ضحكوا به علينا. هل رأى أحدٌ منكم أو سمع عن القصر الرئاسى بالجمهورية الوليدة؟ بالطبع لا.. فكل القصور الرئاسية المتعددة، لم تعد تليق، بل إنَّ قصر العروبة مثلا، تُرِكَ ليكون مقراً ل"البرنس" المفضل لدى الرئيس السابق، البرنس بالطبع لم يكن، السيد علاء، أو السيد جمال.. ولم يكن أيضاً أحمد عز، ولا صفوت الشريف، ولا فتحى سرور.. ولا حتى زكريا عزمى؟ إنه "كلب" الرئيس! وأين فى "العروبة" لتكون الرسالة واضحة جداً حتى لمن لا يفهم، ثم يأتى بعد ذلك من يتساءل عن تراجع دور مصر العربى والعروبي؟ تصوّروا.. البرنس، كان يسكنُ قصراً رئاسياً وحده، مع طاقمٍ هائلٍ من الخدم والحشم، وكان يتلقى العلاج فى أفخم مستشفى بالقوات المسلحة، وعلى حساب الدولة، بينما أكثر من 60 بالمائة من الشعب المصري، لا يجد علاجاً فى مستشفيات الحكومة، وقرابة نصف السكان تحت خط الفقر، وأكثر من خمسة ملايين مواطن، يعيشون فى العشوائيات، أو يشاركون الموتى القبور، ليس هذا فقط، بل إن العهد المبارك شهد أعلى نسبة بطالة بين الشباب فى تاريخها!. تصوّروا.. كان الشعب المصرى كله، أو أغلبه، لا يجد من رئيسه، ولا من زوجته، ولا من أبنائه وورثته، ورئيس وزرائه، وحكومته، وحزبه، المعاملة الكريمة التى كان يلاقيها الكلب.. البرنس؟! تصوّروا.. إنه بعد مرور قرابة شهرين على إزاحة الرئيس، لا تزال جمهورية شرم الشيخ الصديقة، مستعصية على تقديم الرئيس السابق، إلى القضاء، ولا تزال الفيللا رقم 212 بالذات، وكأنها ثكنة عسكرية، فوق القانون، وإلا ماذا يعنى أن يرفض المقربون من مبارك قبول دعوة التحقيق معه. أو أن يرفض حرس مبارك بمقر إقامته فى الجمهورية الشقيقة، استلام أول إعلان لتحديد جلسة محاكمته، بصفته السابقة كرئيس للحزب الوطني، الذى يواجه دعوى قضائية تتهمه بتخريب الحياة السياسية، ونهب أموال الشعب وتزوير الانتخابات. وإذا صحت الأنباء التى زعمت أن أسرة الرئيس السابق تمتلك مقبرة بجوار كلية البنات فى مصر الجديدة، مساحتها 80 مترًا مربعًا، وبتكلفة اقتربت من 15 مليون جنيه، بها تكييف مركزي، وأرضيتها من الرخام المستورد العالى الجودة، وجدرانها من الرخام الطارد للذباب، إضافة لحجرة لاستقبال الضيوف، وبها تليفون دولى ومطبخ صغير لإعداد المشروبات، وثلاجة كبيرة لحفظ الفاكهة والمشروبات.. فإننا سنكون أمام حالة "فُجر" لا تتعظ من الموت، كما لم تشبع من الحياة. السؤال إذا.. إذا كان 10 داونينج ستريت مقراً عريقاً للحكومة البريطانية، له تقاليده التى لا تجرؤ ملكة بريطانيا العظمى "بجلالة قدرها" على تخطيها، فما الذى جعل عنوان جمهورية شرم الشيخ تحديداً فى تلك الفيللا التى تحمل الرقم 212. والتى ظلت لسنوات من الأسرار الفرعونية، التى رواها، ذات يوم،، ملك الغاز، حسين سالم، الصديق المقرب للرئيس السابق، ويروى فيها حكاية أخرى عن عهد ردم فيه الرئيس جانباً من البحر الأحمر ليستقر له المقام على مشهد أسطورى للبحر. لم يكن غريباً ردم البحر، فقد سبقه ردم الوطن، ودفن الناس، ولكن.. هل كانت الفيللا 212 تلخص ما قبل النهاية الصادمة، والتى لم يكن يتوقعها أحد.. أم كانت تفضح ما لم يكن ينبغى فضحه قبل أن يسترد الله عز وجلّ وديعته؟ أم هى تمثل حالة "الافتراء" العام التى طبعت كل هذا العصر، وتجلت فيها الهوة الشاسعة بين من هم فوق.. فوق، وبين من هم تحت.. تحت؟ بالضبط، كالفرق بين المدفن الرئاسى المكيف، وبين الجثث التى تبحث عن أرض تحفظها فلا تسرق!. عندما كتب الروائى الكولومبى الشهير، جابرييل جارثيا ماركيز، روايتيه (100 عام من العزلة) و(ليس لدى الجنرال من يكاتبه) والتى فاز إثرهما بجائزة نوبل للأدب قبل أكثر من عقدين من الزمان، لم يكن يدرى أنه يكتب عن نفس الحالة "المباركية" وشديدة التعقيد، وكما قال أحد الزملاء، فإن الحاكم الفرد يرغب دائما أن يكون معزولاً، لذا يعمد لاختيار أقصى أطراف وطنه ليكون ملجأ وملاذاً، ربما استمراراً لحالة الهروب إذا تدافعت الأحداث أو نشبت الثورات. إنها نفس ساعة الرحيل التى ترسم سيناريو النهاية، بالضبط مثل ذلك الجنرال الذى تمضى أيامه بائسة جدا، دون أن يبدل عادة زيارة دائرة البريد، حيث اعتاد أن يرتدى أفضل وأجمل بدلة تليق بالكولونيل الذى يستعد دائماً لتلقى رسالة مهمة، هو الوحيد الذى ظل لسنوات طويلة يؤمن بأنها ستصل، فالجميع كانوا يعرفون أنها لن تصل أبداً، لا فى يوم الجمعة الذى يقصد فيه الدائرة أسبوعياً وبانتظام، ولا فى أى يوم آخر ! والغريب إن يوم الجمعة الذى ظل الكولونيل ينتظر فيه الرسالة، عند ماركيز، هو نفس الجمعة، الذى سقط فيه حسنى مبارك، وقبله رفيق آخر، هو زين العابدين بن على!. وربما آخرون، منهم من يتأرجح.. ومنهم من ينتظر. إن الكولونيل - ككثيرين غيره ومثله فى عالمنا العربى - كان على يقين أن الرسالة لن تصل، لكنه كان يصر على التمسك بالكذبة، مثل ذاك الذى يصرّ على أنه الحاكم الإله، حبيب الشعب وبطل الأمة الأوحد، والأهم إنه يعرف أنه إنْ أقرّ بالحقيقة فإنه سيكون قد قضى على أى مبرر لوجوده !! وقد كان؟! ** كاتب مصرى