مصر تعيش فى مخاض كبير وتتردد الاتجاهات المتعارضة بين جنبات الوادى المصرى بعنف وبوتيرة سريعة، وكأن هناك من يريد أن يجهض هذا المخاض لكيلا ننتهى إلى دولة ليبرالية. الصراع السياسى الآن يدور بين قوى الإسلام السياسى وعلى رأسها الإخوان والسلفيون والجماعات تسعى بشكل واضح لتسيد منطق المرجعيات الدينية، وبين القوى الليبرالية والانفتاح على العالم، والتى تستند على منطق المرجعيات المدنية. عملت قوى الدولة والمجتمع لتسلطية على خسف مقولة القوى الليبرالية. والمرجعيات المدنية وتشويهها وتلويثها على مدى 50 عاما الماضية، فصورت المرجعيات الدينية وكأنها المنطق الطبيعى لتطور الأحداث، كما ساهم تعظيم وتطور المشاعر والممارسات السلطوية فى الثقافة السياسية المصرية فى تسيد صور مختلفة من المرجعيات الدينية. كانت ثورة 25 يناير 2011 فاتحة باب الأمل الحقيقى للخروج من نفق الثقافة السلطوية. فثورة 25 يناير هى ثورة مدنية كانت مرجعيتها الفضاء والجمهور المدنى والذى يمثل حكمه والقيم العملية لعموم المصريين. االمرجعية المدنية تفهم فى سياق مضمون المشاركة والصراع المدنيين. فى قول آخر، المرجعية المدنية محصلة نهائية لجملة من العوامل الاجتماعية الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية التى تتضافر فى تحديد بنية المجتمع ونظامه السياسى ونمط العلاقات الاجتماعية والسياسية ومدى توافقهما مع مبدأ المشاركة والصراع اللذين باتا معلما من معالم المجتمعات المدنية الحديثة، وهى المجتمعات التى أعاد العمل الصناعى وتقدم العلوم والمعرفة الموضوعية والثقافة الحديثة بناء حياتها العامة وعلاقاتها الداخلية، على أساس العمل الخلاق، والمبادرة الحرة، والمنفعة والجدوى والإنجاز، وحكم القانون، فى إطار دولة مدنية وطنية حديثة، والتى تمثل تجريداً لعمومية المجتمع وشكله السياسى وتحديده الذاتى. فى قول ثان، المشاركة والصراع المدنيان من أهم مبادئ الدولة الوطنية الحديثة؛ مبدأ يمكننا أن نميز فى ضوئه الأنطمة الوطنية الديمقراطية التى تقوم على المواطنة والمساواة فى الحقوق والواجبات، من الأنظمة الاستبدادية، الشمولية أو التسلطية التى تقوم على الاحتكار.. مبدأ يقيم فرقاً نوعياً بين نظام وطنى ديمقراطى قوامه الوحدة الوطنية، وحدة الاختلاف والتنوع والتعارض الجدلى، ونظام شمولى أو تسلطى قوامه التحاجز الاجتماعى والحرب الأهلية الكامنة، التى يمكن أن تنفجر عنفاً شاملا وتدميراً ذاتياً فى أى وقت.. مبدأ سياسى وأخلاقى يقيم فرقاً نوعياً بين الحرية والاستبداد. ويمكن القول إن المشاركة والصراع المدنيين هما التعبير العملى عن العقد الاجتماعى الطوعى، لا فى مفهومه فحسب، بل فى واقعه العملى أيضاً، إذ تعيد المشاركة والصراع المدنيين إنتاج العقد الاجتماعى وتؤكده كل يوم؛ أى إنها تعيد إنتاج الوحدة الوطنية وتعزها كل يوم، وهذه أى الوحدة الوطنية من أهم منجزات الحداثة، ولا سيما الاعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف الفئات الاجتماعية وإسهام كل منها فى عملية الإنتاج الاجتماعى على الصعيدين المادى والروحى، نعنى الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والتبادل. وهى، من ثم، تعبير عملى عن المواطنة، أى عن صيرورة الفرد، من الجنسين بالتساوى، عضواً فى الدولة الوطنية متساوياً، بفضل هذه العضوية، مع سائر أفراد المجتمع وأعضاء الدولة فى جميع الحقوق المدنية والحريات الأساسية. إن المشاركة والصراع المدنيين هما هى جوهر المواطنة وحقيقتها العملية، وهى التى تحدد الفارق النوعى بين الرعايا والمواطنين، وبين الامتيازات والحقوق. فذوو الامتيازات، فى كل عصر وفى كل نظام، لم يكونوا مواطنين، بل رعايا، ووذوو الامتيازات اليوم ليسوا مواطنين، بل هم رعايا وموالين وعبيد، فمن يظن نفسه سيداً على جماعة من العبيد هو أكثر منهم عبودية. وذوو الاميتازات اليوم ليسوا وطنيين، لأن الوطنية تتنافى مع الامتيازات على طول الخط. والنظام الذى يقوم على الامتيازات وتسلسل الولاءات ليس نظاماً وطنياً بأى معنى من المعانى. الوطنية هنا مرادفة لكلية المجتمع وعمومية الدولة وسيادة الشعب، وليست حكم قيمة أو صفة أخلاقية. المواطنون فقط هم ذوو الحقوق المدنية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التى يعترف بها الجميع للجميع بحكم العقد الاجتماعى، ويصونها القانون الذى يعبر عن هذا العقد.. فى هذا العقد يعتبر الفرد، من الجنسين، هو الأساس الطبيعى للمجتمع المدنى، والمواطن، من الجنسين أيضاً، هو الأساس السياسى، المدنى، للدولة الحديثة، الدولة الوطنية؛ لذلك يبدو لزاماً على من يبحث فى موضوع المشاركة المدنية، وأن ندرس مدى تحرر الأفراد من الروابط الطبيعية، أو الروابط الأولية، روابط الجماعات ما قبل الوطنية وما دون الوطنية، كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية وما إليها، مما يؤلف عوالم المجتمع التقليدى وكسوره المتناثرة والمتحاجزة، أى التى تعيش داخل أسوارها، وتقيم فيما بينها حواجز عشائرية أو عرقية أو دينية أو مذهبية، وتكتسى لديها السياسة طابعاً دينياً، إيمانياً ودوغمائياً، ويكتسى الدين طابعاً سياسياً، تبريرياً وذرائعياً. الاستبداد الحديث قائم على تسلسل الولاءات وعلى الامتيازات، لا على الحقوق وحكم القانون، يساوى بين الرعايا فى توزيع هداياه التى أهمها القمع والخوف واليأس، ويساوى بين الأفراد من الجنسين على أنهم لا شىء، ولا يقبل بأى نوع من المعارضة، لا من داخل بنيته ولا من خارجها، لأنه يقوم على احتكار الحقيقة، واحتكار الوطنية، وعلى الاحتكار الفعال لجميع مصادر السلطة والثروة والقوة.. فالمعارضة فى جميع النظم الاستبدادية، الشمولية منها والتسلطية مؤثمة ومكفرة ومخونة. فى قول ثالث، للاندماج الوطنى، كما هو معلوم عاملان أساسيان: أولهما العمل والإنتاج الاجتماعى، أى قدرة المجتمع على إنتاج وإبداع حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية وإعادة إنتاجها بحرية، والثانى هو الدولة السياسية أو الدولة الوطنية التى يتساوى فى عضويتها جميع أفراد المجتمع، بلا استثناء ولا تمييز. فليس بوسع العمل، مجرداً ومشخصاً، أن ينظر إلى الفرد إلا بوصفه منتجاً للقيمة، بغض النظر عن الجنس والدين والانتماء العرقى وسائر التحديدات الذاتية الأخرى، وليس بوسع الدولة بما هى تجريد العمومية أن تنظر إلى الفرد وأن تتعامل معه إلا بصفته مواطناً ، يلاحظ أن الفكر السياسى المصرى والخيال السياسى المصرى معاً لم يرقيا بعد إلى مستوى التجريد، فلا يستطيع المفكر العربى والسياسى العربى، سوى استثناءات قليلة، أن ينظر إلى الدولة على أنها تجريد عمومية المجتمع وتعبير عن كليته، وإلى المواطن على أنه تجريد الفرد الطبيعى، فلا يستطيع تصور فكرة أن الدولة هى دولة جميع المواطنين ومحايدة حياداً إيجابياً إزاء جميع محمولات الأفراد والجماعات، وإزاء العقائد والأيديولوجيات الدينية والعلمانية على السواء. بهذين العاملين: العمل والدولة ، تتنحى عن علاقات العمل، وعن العلاقات السياسية خاصة، جميع تحديدات الأفراد ومحمولاتهم، سوى القدرة والمهارة والكفاية العلمية، على صعيد العمل، والتزام القانون والوفاء بالالتزامات والمسئوليات التى تلقيها المواطنة على عاتق الفرد، على صعيد الدولة. ومن ثم، فإن المشاركة والصراع المدنيين، وهما مضمون المرجعية المدنية، شروط للانتقال من "الجماعة الطبيعية" إلى الجماعة المدنية، من المجتمع التقليدى إلى المجتمع الحديث، مجتمع الشغل والإنتاج والمصالح المختلفة والمتباينة والتنافس الخلاق والاعتماد المتبادل، أى إنها مرتبطة بالاندماج الوطنى أو الاندماج القومى والانتقال من التشظى والتناثر إلى الوحدة، وحدة الاختلاف، ومن الملة إلى الأمة، بالمعنى الحديث للكلمة، وهو غير المعنى المتداول فى الخطاب الثقافى والسياسى المصرى والعربى حتى اليوم، والانتقال من ثم من وضعية ما قبل الدولة الوطنية إلى الدولة الوطنية بثلاثة أركانها: الأرض (الوطن) والشعب والسلطة السياسية.