اعتاد المحللون وصف تجارب التنمية فى العالم الثالث بالمعجزة، وكأن العجز والفقر إرادة إلهية، اختص بها الله هذه الدول دون غيرها، وصارت تعبيرات مثل (الأزمة وعنق الزجاجة وربط الأحزمة) من الإكلشيهات المتداولة فى هذه البلدان، بينما الحقائق تؤكد كل يوم، أنهم لا يقولون إلا كذباً، فخلال العشرين عاماً الماضية تابعنا - بانبهار شديد - تجارب فذة للتنمية فى شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، وقبل ذلك بعشرين أخرى كانت الخطة المصرية الخمسية الأولى نموذجاً فى التنمية المستقلة، احتذته دول كثيرة، أما الآن فصرنا نمصمص الشفاه ونتحسر حينما ننظر حولنا ونرى الأقزام قد تحولوا إلى عمالقة، وتكاد مصر أن تكون الحالة الوحيدة التى يتحول فيها بلد من عملاق إلى قزم، والمعادلة البسيطة فى الصعود التنموى تتلخص فى ثلاثة عناصر: الإرادة المستقلة والإدارة الخبيرة، وتعظيم القدرات بشرط أن يتم ذلك على قاعدة ديمقراطية، وفى هذا السياق يمكن رصد تجربة البرازيل بمناسبة انتهاء ولاية الرئيس (لولا دى سيلفا) الذى بكى وأبكى شعبه والعالم فى آخر خطاب رئاسى ألقاه قبل أن تتسلم (ديلما روسيف) مقاليد السلطة. انهمرت دموع الرئيس سيلفا، حينما تذكر الفقر المدقع الذى عاشه طفلاً مع عائلته وأشقائه الثمانية فى شرق البرازيل، تلك المنطقة التى يعتبرون فيها أن الطفل إذا تخطى السنوات الخمس دون أن يموت جوعاً أو مرضاً، فقد كتبت له الحياة من جديد، وبعدها شهد المناضل الشاب موت زوجته وحملها أثناء المخاض، ثم رحيل والدته خلال فترة اعتقاله فى الثمانينيات، ورغم معاناته الحياتية والوظيفية كعامل فى مصانع (ساو باولو) نجح (لولا) فى قيادة العمل النقابى وتأسيس حزب العمال، ثم خوض الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات، كانت نتيجتها الفشل، وكان تبريره الذى قاله فى خطبته الأخيرة (لقد خسرت لأن قطاعاً كبيراً من الفقراء لم يثقوا بى بشكل كاف) لكنه فاز بأغلبية كبيرة فى انتخابات 2002 لينجح فى تحويل أكبر الدول المدينة إلى الدولة صاحبة القوة الاقتصادية الثامنة فى العالم بعد أن سددت جميع ديونها المستحقة قبل مواعيد السداد بثلاثة أعوام ووضع برنامجاً اقتصادياً لتسريع النمو، قادته أكبر الكفاءات الاقتصادية، فتم تقليص الضرائب وتحديث إنتاج الطاقة، وتنفيذ المشروعات الكبرى بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وأثمر هذا البرنامج تحرير عشرين مليون مواطن كانوا يعيشون تحت خط الفقر، وتحقيق أعلى معدلات النمو، حدث ذلك دون أن يربط الفقراء أحزمة البطون، لأن سيلفا كان منحازاً لهذه الأغلبية الاجتماعية، صاحبة الفضل فى وصوله للسلطة، ولم نسمع فى تجارب البرازيل وأخواتها أى ربط ساذج وعبيط اقتصادياً بين خطة النمو وآثاره السلبية على الفقراء فقط، وحينما وثق الشعب البرازيلى فى انحياز رئيسهم لهم، اختاروا من بعده السيدة التى كلفها باقتحام المشكلة الاقتصادية، وكانت قد نجحت قبلها فى قهر أورامها السرطانية، الحديث عن سيلفا ورفاقه فى العالم يورث الحسد، لأنه ترك الحكم وهو فى أول العقد الستينى بعد أن صار أيقونة الزعماء فى العالم، ونجح فى لعب دور الوسيط فى حل النزاعات الدولية، بقدر قيمته كزعيم حقق لشعبه حالة الاكتفاء ولنفسه حالة الرضا.