المرأة نصف المجتمع أو أكثر قليلاً ، فإن لم تكن الأغلبية فهي قريبة منها ، ومن حقها بهذه الصفة أن يكون صوتها مسموعًا ، إن لم يكن مطاعا . وهذا النصف الجميل من المجتمع هو الذي يري الجيل الذي سيصبح رجالاً ونساءً كل المجتمع ، فالمرأة هي التي حملته في بطنها تسعة أشهر ، ثم غذته من صدرها عامين فنشزت عظامه وتماسكت عضلاته ثم تولته سنوات الطفولة الأولى ، فأشرفت على أكله ، ولبسه .. نومه وصحوه ، وطبعته بطابعها فجعلته شجاعًا أو جبانًا ، صادقًا أو كاذبًا ، مقدامًا أو محجامًا. فأي عمل وأي رسالة يمكن أن يقوم بها الرجل تضاهى أو تسامى هذه المهمة التي يقوم بها نساء العالم أجمع ، وعلى اختلافه ، بتفان وتضحية . والمرأة أخيرًا رمز الجنس ، فقد حملوها هذا وخلطوا بين رسالتها الحقة : الأمومة ، وما في نفوسهم من عواطف ومشاعر ، فأصبحت صورتها مادة الإعلانات ، وأصبحت أزياؤها حديث الصالونات ، وأصبح القرب منها ونيل رضائها أعظم الأمنيات . فهل يمكن بعد هذا أن يقال إن أي حديث عنها كثير عليها ؟ إن كل مشروع للنهضة بالأمة لابد أن يضع في صدارته قضية المرأة وتحريرها من الإصر والأغلال التي فرضها المجتمع عليها بحيث تكون (إنسانًا) حرًا تسهم مع المواطنين في بناء بلادها كما هي (أنثي) لها حقوق وعليها واجبات ، فإذا أدت واجباتها نحو المجتمع ، فعلى المجتمع أن يسلم لها بحقوقها ، ويشجعها على استثمار هذه الحقوق فيما ينمى شخصيتها كإنسان وأم وزوجة ، وبدون هذا فلن يكتب لأي مشروع النجاح ، وكيف ينجح إذا كان نصف الأمة متخلفًا ، متعثرًا يبث التخلف والتعثير في الأجيال الآتية ويمسك بأقدام الأجيال الراهنة . مدخل البحث: يجعل هذا البحث المدخل الذي يتطرق منه للمعالجة والمحور الذي تدور عليه واقعة لم تحظ بالعناية أو التمييز تلك هي أن المرجعية الفقهية التي يعود إليها الفقهاء عندما يراد الحكم تختلف اختلافًا كبيرًا قد يصل إلى حد التعارض مع المرجعية القرآنية أي التي تعود إلى القرآن مباشرة ، وإلى هذه الحقيقة تعود الأحكام المتحيزة والمتخلفة التي يصدرها الفقهاء عن المرأة ، إذ إن هؤلاء الفقهاء ومعهم أغلبية أساتذة الجامعات المدنية ومعظم المستشرقين يعودون إلى الأحكام التي وضعها أئمة الفقه الإسلامي بدرجة رئيسية ما بين القرن الأول والخامس الهجري ، وتوالى عليها الشرح خاصة بعد انغلاق باب الاجتهاد ، وليس إلى القرآن . ويجب أن لا تهولنا هذه الحقيقة أو نستبعد أن يوجد اختلاف ما بين رأي الفقهاء ، ونصوص القرآن يمكن أن يصل إلى حد التعارض ؛ لأن من المسلم به أن أي معالجة للنص القرآني بقدر ما تنبع من النص نفسه ، بقدر ما يخضع ذلك لمدى فهم من يقوم بالتفسير والتأويل ، وذكائه وتأثره بمختلف العوامل وأبرزها روح العصر الذي قلما يمكن التحرر منه . إن النص في هذه الحالة يصبح كالعجينة في يد خباز يمكن أن يصنع منها ما يشاء ويغير من طعمها بما يضعه من ملح أو سكر ، ويمكن أن يدخلها الفرن حتى تحترق أو يخرجها قبل أن تنضج ، ونحن في حياتنا اليومية نجد شاهدًا لذلك ، ففي كل قضية تعرض على المحاكم نجد محامين اثنين كل منهما يعتمد على نصوص من القانون في دعم رأيه ودحض رأى المحامي الآخر الذي يعتمد بدوره على نصوص القوانين . وأي شيء أبشع ، وأوقع دلالة ، مما أطلق عليه الفقهاء النسخ واستباحوا تعطيل وتجميد عشرات ، أو حتى مئات الآيات ، وكان لهم مندوحة لو فسروا الآية (106) من سورة البقرة “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" ، تفسيرًا مختلفًا عما تبار إلى أذهانهم (1) ، وهذا هو النسخ الذي كانوا يقولون لكل من لا يعلمه (هلكت وأهلكت) . إن كل تفسير أو تأويل لا يمكن أن يخلص من (إسقاط) ممن يقوم به ، وقد كان التباين في تأويل القرآن هو أكبر أسباب اختلاف الفقهاء بحيث وُجدت رخص ابن عباس جنبا إلى جنب عزائم ابن عمر ، والمعتزلة في مواجهة الأشاعرة ، وقد كان يمكن أن يخلص الظاهرية من هذا المأزق لأنهم يأخذون بظاهر القرآن ، لولا أنهم قيدوا فكرهم بالأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة . أو خذ مثلاً الخوارج الذين كان يطلق عليهم (القراء) وكانوا أكثر الناس حفظًا وتلاوة للقرآن ، ومع هذا فإن فكرهم السقيم إزاء تطور الأحداث جعلهم يبتسرون آية من سياقها "إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ" ، تعلة لكي يغتالوا بخسة ودناءة وفي غبش الفجر فارس الإسلام وبقية الأمل في حكم نبوي صائحين (الحكم لله لا لك يا علي) ولم تقتصر جريمتهم النكراء على قتل آخر الخلفاء الراشدين بل أيضًا هي التي أدت إلى ظهور الملك العضوض .وأخيرًا فقد أغنانا الرسول نفسه عندما قال (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) ، وقد صدرت هذه الصيحة عنه بصدد أمر خاص بالمرأة (1) . الإسلام الذي جاء به القرآن سمح مرن ، وهو يتسع للكثير وهذا هو معني أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان ، ولكن تفسير المفسرين وأحكام الفقهاء ضيقت سعته وعسرت يسره ، وجمدت مرونته ورفضت ما تسمح به الصياغة القرآنية المعجزة ، وحدث هذا لأن روح العصر القديم ، باستبداده وجهالته ، وظلمه ، ما كانت تسمح بالحرية والمساواة ، والانفتاح التي أرادها القرآن ، ونحن اليوم نعيد إلى الإسلام حيويته وفعاليته بالعودة إلى القرآن مباشرة دون تقيد بما جاء في تفسيرات المفسرين أو أحكام الفقهاء (فهم رجال ونحن رجال) ، ونحن نعترف لهم بفضل السبق ، وأنهم أفنوا أعمارهم للدفاع عن الإسلام ونقر لهم بما اتصلوا به من ورع وتقوى و(فدائية) ، ومع هذا فقد نفضلهم في مجال البحث بما بين أيدينا من وسائل وأدوات لم تتح لهم ، فضلاً عن تحرر العصر .. ولا يسمح مجال هذا البحث الموجز بالإفاضة أو الإسهاب في شرح هذه القضية ونحن نحيل من يحب التفصيل على كتابنا (نحو فقه جديد) (3 أجزاء). الاثنين فى الفصل الأول "القرآن يحرر المرأة" ◄القرآن لم يحرم المرأة من العمل أو تولى المناصب ◄شهادة المرأة ليست دائماً بنصف رجل ◄إقرار القرآن للخمار "الجاهلى" لا يعنى فرضه ************************************************************************************ (1) لقد فندنا مقولة النسخ (المقدسة) والتي اعتبرت لدى الأسلاف أهم فنون القرآن في كتابنا "تفنيد دعوى النسخ في القرآن الكريم" بما لا يتسع بالطبع الحديث عنه هنا ، وإن لم يمنع هذا من الإشارة إلى أن مفتاح استبعاد النسخ كان أن كلمة آية في سورة البقرة لم يقصد بها نص قرآني وإنما معجزة أو دلالة أو قرينة وقد وردت كلمة آية في ثمانين موضعًا من القرآن كلها بلا استثناء بهذا المعنى ، واعتبارها نصًا هو أخذ بما تعارف عليه المفسرون وإهمال لما أراده القرآن نفسه . (1) قال النبي عليه الصلاة والسلام ذلك عندما أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا ، والحديث أخرجه النسائي .