أجلس أمام شاشة الكمبيوتر أتابع أغنية فيروز، "يا سلام على بكرة يا سلام" تمنحنى الكلماتُ أملاً جديدًا، أقلّب فى ملفات جهازى المحمول، أفتح صُوَرَنا، صور الزفاف، الفستان الروز، أصَرَّ أن نصبح يومها مختلفَين ففاجأنى بفستانٍ روز وبدلة بيضاء له، أخبرتُه أن أباه سيقتلنا إذا رآنى فى فستانٍ بلا أكمام، أخبرنى أنى فى حمايته، شعرتُ بحلاوة الجملة، أعجبَتنى أنا الثوريةَ المدافعةَ عن حقوق المرأة .. فرحتُ يومها حين أخبرنى أننى فى حمايته .. - عارفة يا ليلك إيه أكتر حاجه باحبها فيكى ؟ باحب الثورة اللى بتطل من عينيكى . أول مرة قالها حازم أطلتُ النظرَ إلى عينى فى المرآة لأتعرفَ على معنى ثوريتي. قلّبت فى صور الفرح، وشهر العسل، وقسيمة الزواج، لكننى قمتُ فجأةً لأُحضِرَ "السكانر" وفتحت دولابى لأحضر قسيمة الطلاق وأخذت صورة منها ووضعتُها فى نفس الملف على الكمبيوتر. اغرورقَت عيناى بالدموع عندما تذكرتُ آخرَ مرةٍ لنا قبل الذهاب إلى المأذون، طلبتُ منه فقط أن يجيبَنى عن تساؤلٍ واحد: - حازم ممكن أعرف إحنا ليه بنتطلق؟ أنا لسه باحبك. احتضننى فى حضنٍ لن أنساه واغرورقَت عيناه بالدموع وأجابنى بانكسار: - مش عارف أبص فى عينيكي، مش عارف أبسطك واكون مبسوط معاكي. أخبرتُه أنها أزمةٌ وستنتهى وأنّ السنواتِ الأولى فى الزواج بها الكثيرُ من المشاكل، وأننى ربما قصّرتُ فى حقه وانتبهتُ لعملى أكثرَ من اللازم، لكنه احتضننى ووضع خاتمَ الزواج فى يدى وقال: "مش قادر أكمل، ترضى حد يعيش معاكى غصب عنه". كانت هى الجملة التى قصمَتني، لم أحتمل العيش معه غصبًا عنه، وكّلتُ أخى وذهب معه إلى المأذون. -عايزه الحضن ده يبقى آخر حاجه عملناها مع بعض، مش عايزاك تقول لى انتى طالق. أُغلِقُ جهاز الكمبيوتر، وأصعد إلى (علياء) جارتى وأستأذنُها فى الجلوس مع طفلتها (ملَك)، تدخل (ملك) مسرعة: "للك انتى حلوة". تصحح لها الاسم "قولى ليلك"، فتردد ملك "للك" .. تطلب (ملك) أن أحكى حكاية الأرنب. أظل أحكى معها حتى تنام، أجلس بجوارها وأشم رائحة جلدها وأنهار من البكاء. يرنُّ تليفونى المحمول، يخبرنى أخى أنه وزوجتَه يدعواننى إلى العَشاء والسينما، أعتذر لأنَّ على الحصةَ الأولى فى الغد. أُدخِل (ملك) لوالدتها وأنام فى سُباتٍ عظيم تتخلله أحلامُ وكوابيسُ الرحيل. أستيقظُ فى مِزاجٍ رائق، أُعِدُّ كوبَ شاى بالفانيليا، أنظُرُ إلى صورة جدى وجدتى المعلقة على الجدار .. تبدو فى الصورة ك(شادية) بفستانها الرقيق المنتفخ، ويُطِل جدى من الصورة بعنفوان (رشدى أباظة) وشياكة (كمال الشناوى). أفيق من تأملاتى على صوت خبطات (ملك) على الباب، أفتح فأجد علياء وطبق كيكة بالبرتقال. - مش ممكن أعمل كيكة بالبرتقال وما تدوقيهاش. تضع الطبق على السفرة وتسحب (ملك) بسرعة، أتناول الكيك ورشفةً من الشاى فتمتزج رائحة البرتقال بالفانيليا المُنبعثة من الشاى بصوت فيروز فى أغنية "عندى ثقة فيك" فيمنحانى مزاجًا رائقا. أُديرُ مُحرِّكَ سيارتى الكبيرة، وهى آخر ما تبقى من علاقتنا، أصرَّت أمه أن تمنحنى سيارة أبيه وذلك عندما أصررتُ على عدم أخذ مؤخر الصداق. - أنا مش جارية علشان آخد فلوس منه بعد الطلاق. أهدتنى حماتى السيارة ووضعَت بداخلها مُصحفها الذهبى وقالت "ده هديتى أنا علشان نفضل كعيلة جواكى". أخذتُ السيارة ليس تنفيذًا لوصية صديقتى التى أصرت على انتفاعى بأى شىء، لكننى أخذتها لنظل كما قالت أمه عائلة واحدة ولأننى أحِب مصحفها الذهبى. أدخُل الحصة الأولى بنشاطٍ أُحسَدُ عليه، يرقبُنى أستاذ (أحمد) مدرّسُ الجغرافيا ونظراتُه تخترقنى بعنف، تستقبلنى البنات بتهليلٍ كبير بعد غياب يومين. تُحضر لى إحداهن وردةً صغيرةً وتقول - أنا جبتها يا مس من امبارح وحطيتها فى مية علشان تفضل عايشة. أخذتُ منها الوردة وقبّلتُها وكتبتُ على السّبّورة "تعبير"، وظللتُ أحفِزُهنّ على صُنع حكايةٍ تخصهنّ، فكلٌّ مِنّا يحكى حكايتَه الخاصةَ ويصوغُها بأسلوبه فى الكشكول. طلبَت منّى إحدى البنات "نسمع مزيكا يا مس زى المرة اللى فاتت" .. فتَحتُ تليفونى المحمولَ وأدرتُ أغنيةَ "جدُّو" لمحمد منير. جلسَت كلٌّ منهنّ تحكى حدوتتها الخاصة. جلستُ لأكتبَ حدوتتى الخاصة معهن، حدوتة البنت الصغيرة اليتيمة التى تجلس مع شقيقها عند جدتها، حكيتُ عن زوجة أبي، وصورة أمى المتخيَّلة التى أنسجُها فى كل مرةٍ ك(فاتن حمامة). أُغلِقُ كشكولى وأستمعُ إلى حكاياتهنّ الصغيرة المليئة بالفرح، لأسحبَ من ألوانِ الفرَح الخاصة بهنّ لونًا يُبهجُ لوحتى الحزينة. بمجرد انتهاء الحصة الأولى أنسحب إلى حجرة المدرسين، أتنفس الصعداء لاكتشافى أنه يمكننى البقاء وحيدةً فى الحجرة إلى الحصة التالية، الكلُّ منشغلٌ بحصصه، أفتحُ جهازى المحمولَ وأدخُلُ إلى الصفحة الرئيسة للفيس بوك وأُتابعُ صور الأصدقاء، ألمَحُ صوره فى صفحة صديقٍ مشترَك، أبحثُ عن تعليقاتِه بجنونٍ، أطيلُ النظرَ إلى الصورة، يبدو فيها مرتاحًا أكثرَ مِن ذى قبل، أشعُر بالانكسار كلما رأيتُه سعيدًا أو هانئًا، أفتَحُ الصورةَ لتحتلَّ الصفحةَ بكاملِها، تبدو ملامحُه واضحةً جدًّا ومستفِزَّةً لمشاعرى، ألمِسُ برفقٍ وجهَه على الشاشة، أُقبِّلُه وأنهمرُ فى البكاء. أقرِّرُ الصمود وعدم الاستسلام لتلك الحالة وأراقب الباب المغلق وأنظر إلى الساعة لأتأكدَ كم من الوقتِ سيُمكِنُنى الاستمتاعُ وحدى، أجفف دموعى وأتخذ القرار بسرعة وأحذف صديقَنا المشترَك من قائمة الأصدقاء، لاأريد أن أرى صوره ولو صدفة .. سبق وحذفتُه هو شخصيًّا مِن قائمة أصدقائى فأرسل إلى رسالة استفزازية عن حزنه لحذفى له "لم أكن أتصور أننى بهذا السوء الذى يدفعُكِ إلى عدم رؤيتى مرة أخرى". أجابت عنى صديقتى عندما حكيتُ: "وحياة أمه، ده بوّظ حياتك". العجيب يا حازم أنك لست بهذا السوء، وأننى ما زلتُ أكِنُّ لك مشاعر مختلطة، مزيجًا من الحب والغضب والقرف. أفيق من تأملاتى على صوت (ضحى)، أغلِقُ صفحة الفيس بوك وأبتسم باصطناعٍ لكنها تلمحُ ذلك الاحمرارَ فى وجهى واللمعة الباكية فى عينيّ. - اسكتى، مش (حسن) جوزى جايبلك عريس! أحاول أن أجاريَها وأستمع إلى مواصفات صديق (حسن)، أتذكرُ (حسن) مدرس الرياضيات زميلنا والذى استقال ليفتح شركة خاصة به، أتذكرُ زيارته و(ضحى) لنا فور زواجنا، جلس يناقش مع (حازم) فكرة استغلال أرضه فى المنيا وتحويلها إلى مشروع استثمارى، و(حازم) يناقشه فى ذلك السحر الذى يشعر به عند زيارته لأرضه هناك وجلوسه فى صومعته وتفرغه للرسم، وجزءٌ من انبهاره هو المكان الذى يلائمه تمامًا كما هو بفلاحيه ورائحة روث البهائم، أتذكر أن (حازم) أخبره وقتها أنَّ تلك الرائحة هى مصدرُ إلهامِه الأوّل. أفقتُ على صوت (ضحى) وهى تقول: - على فكرة (حسن) بيقول لى انّ (حازم) ده ما كانش راجل وأهبل كمان وفكرنى يا (ليلك) بموضوع روث البهائم، فاكرة؟ لم أخبرها أننى الأخرى بلهاء، وأننى مارست الجنس مع (حازم) باستمتاعٍ مُضاعَفٍ على رائحة روَث البهائم، وتمنيتُ فى تلك اللحظة أن أنجِبَ طفلةً صغيرةً تُشبهُ أمى وأمه فى نفس الوقت. لكننى أفقت مرة أخرى على صوتها وهى تلحّ: "مش هتشوفى العريس؟، على فكرة هو سأل (حسن) عن أسباب الطلاق وقال له إنك اكتشفتى أن حازم مريض نفسى". - إزاى حسن ده يتصرف من دماغه .. مين قال ان حازم مريض نفسى؟ تنظر لى بتعجُّب وتردّد ما سمِعَته مراتٍ مِن زوجةِ أخى وصديقاتى عن غبائه وعدم مسئوليته وأنّ الملل الزوجى لا يُعالَجُ بالرحيل. تذكرتُ خطابَه الذى وجدتُه فى فستان زفافى الذى أرسلَه مع صديقة مشتركة: ""ليلك .. كنتُ أقرأ فى رواية (عابر سرير) لكاتبتِكِ المفضلة (أحلام مستغانمى)، ثم استوقفتنى فقرة بأكملها أهديها لكِ، علَّكِ تفهمين لماذا انفصلنا وأننى لست بمختلٍّ كما اتهمَنى أخوكِ أمام المأذون.. " ثمة من ينال منك، بدون أن يقصد إيذاءك، إنما باستحواذه عليك حد الإيذاء. ثمةَ مَن يَربط سعادته بحقِّه فى أن يجعلَك تعيسا، بحكمِ أنه شريكٌ لحياتك، تشعرُ أنَّ الحياة معه أصبحت موتًا لك، ولابد مِن المواجهة غير الجميلة مع شخصٍ لم يُؤذِك، لم يَخُنكَ، ولكنه يغتالُك ببطء. تريد أن تستقيل من دور الزوج الصالح والسعيد الذى مثلته لسنوات، تفاديا منك للشجارات والخلافات. تريد أن تتنازل عن أوسكار التمثيل الذى كان يمكن أن تحصل عليه فى البطولة الرجالية فى فيلم "الحياة الزوجية" لا لقِلة حيلتك فأنتَ ما زلت قادرًا على مزيدٍ من الأكاذيب التى تبتلعُها امرأةٌ دون جهد. ولكنك مُتعَب، والحياةُ أقصر مِن أن تقضيَها فى حياكة الأكاذيب، والرعبُ اليومى الذى تعيشه أكبر مِن أن تزيد عليه الخوفَ مِن زوجتِك". ليلك، لستُ بكاذب، لم أستطع أن أحُوكَ الأكاذيب لأقنِعَكِ أنى أحبك، عندما وقفت أمام اللوحة لأربع ساعاتٍ دون أن أضع خطًّا واحدًا فيها، وعندما جلستُ بجوارِكِ فى السريرِ لأتجنبَ رغبتَك المُلِحَّةَ أدركتُ أننى لم أعُدْ أحبُّكِ وأننى لن أتمكنَ مِن استكمال لوحاتى وحياتى وأنا معك"". لم أشعر بأى شىء إلا وأنا فى السيارة بعد انتهاء اليوم، لا أعرف كيف شرحتُ حصة النحو ولا أتذكرُ كيف أفهمتُهن الفارقَ بين الفاعل والمفعول به. كل ما أتذكرُه أننى انسحبتُ مِن أمام (ضحى) بعد أن اتهمتنى بالجنون والرغبة فى إيذاء الذات. أجلس فى السيارة لأفكر كيف سأقضى اليوم، يرن هاتفى المحمول وأرى رقم حماتى على شاشته، أهاتفُها وتسألنى عن صحتي، أكاد أسألها عن حازم، لكنها تندفع وتخبرنى أنها لا تعرف ما الذى حدث له وتتعجب من اكتئابه رغم إصراره على الطلاق. أتمتمُ بكلامٍ لم أفهَمْه عن القسمة والنصيب واختيار الله وأُنهى المكالمة سريعا. لكن تظلُّ كلماتُها عن اكتئابه مصدرَ فرَحٍ لى طوال اليوم. تهاتفُنى صديقةٌ وتخبرُنى عن ذهابها إلى حفلة "اسكندريلا"، أخبرُها بأننى لم أسمع بهِم مِن قبل ولن أذهب إلى حفلةٍ لفريقٍ لا أعرفُه واسمُه لا يعجبني. - ايه اسكندريلا ده .. يعنى اسكندرية ولا سندريلا ولا ايه بالضبط؟ تخبرنى بأننى سأندم كثيرا إن لم أذهب، أخبرُها أننى سأجرّب. فى الحقيقة كنتُ لا أريد الاستسلام للحالة الحزينة، ووجدتُ دعوةَ (سمَر) مثاليةً جدًّا وفى توقيت مناسب: - وماله يا ستّي، اسكندريلا زى بعضه، ده حتى مزيج من حاجتين باحبهم. أذهب إلى البيت وأستسلم للنوم لأستيقظ بعد ساعتين وأحتسى فى البلكونة شايًا بالقرنفل، أستسلم لحالة من التأمل لا يُخرجنى منها سوى صوت "ملك" وهى تنادينى بصوتها الطفولى من بلكونتها. تسألنى (علياء) فجأة بصوتٍ مرتفع: ألاّ قولى لى .. مش عايزة كلب؟ يفاجئنى السؤال ويقطع تفكيرى صوت ملك وهى تنبح كالكلاب. - اشمعنى كلب يعنى؟ تخبرنى بأنّ أخاها أحضر كلبًا وزوجتُه أقسمَت أنه لن يَدخُل البيت خوفًا من نجاسته وخروج الملائكة من المنزل. - وانتى يا ليلك الملائكة عندك ما بيجوش أصلاً بصوت المزيكا طول الوقت، فالكلب فكرة كويسة ويسليكى وما يِخرِبش على أخويا ولما يحب يشوفه يبقى يشوفه عندك .. ايه رأيك؟ أخبرُها بتأجيل الموضوع لأنى سأذهب إلى حفلة وأعِدُها بالتفكير، لكنها تقاطعنى وتخبرنى أنها ستخبر زوجةَ أخيها أننى سآخذه مِن عند البواب بعد عودتى مِن المدرسة. أغلِقُ البلكونة وأشعرُ بالرغبة فى عدم الاختراق وبالحنينِ إلى بيت (حازم) بالمنيا .. أطردُ رغبتى سريعًا وأستعدُّ للنزول. موضوعات متعلقة.. - ننشر أسماء الفائزين فى مسابقة أخبار الأدب