وقف على الأريكة وارتكزت يداه الصغيرتين على شرفة النافذة بينما ظل يراقب تساقط الثلج فى ليلة مظلمة غاب عنها القمر، وبدت على ابن الثامنة سعادة مزجها الشوق بالحنين، إنها سعادة بريئة لم يفسدها شحوب وجهه وبنطاله المرقع أوجواربه التى لم تغط من قدميه أكثر مما كشفته، وطال الليل وطال معه خيال الطفولة البرئ الذى تلاعب بسذاجة الصغير، فكان كلما أحس بالتعب جلس على الأريكة يلتقط أنفاسه، لكنه سرعان ما يقف ليعود كما كان. لقد كانت قطع الخبز الجاف الصغيرة هى بمثابة الحلوى التى يتسلى بها كى تلهيه عن وجبة العشاء الوهمية، وبالقرب من الصغير جلست أمه تحيك ملابس زوجها الذى تنتظره هى وصغيرها بعد انتهاء الحرب وإعلان عودة الجنود الليلة، ووقف النعاس عاجزا أمام شوق الأم وصغيرها لاستقبال الأب العظيم الذى غادر المنزل منذ أشهر عديدة عاشوا فيها بين الوحدة والفقر. "أمى وصلت شاحنة، إنها تقل العديد من الجنود" اتجهت الأم نحو الخارج مسرعة تجر خلفها آهات الفراق، ويتبعها الصغير متلهفا لرؤية والده، ووقف الاثنان يحدقان بالجنود وهم ينزلون من الشاحنة واحدا يتلوا الآخر وتقدمهم جندى مطأطأ الرأس ويحمل بين يديه حقيبة من الصوف الخشن وبدأ يقترب من الأم ببطء يخفى وراءه آلام غريبة وحينها ارتفعت رأسه ثم انحنى لها وقال، "لقد كان زوجك بطلا فى المعركة قام بآخر خطوة قمنا على أثرها بالسيطرة على الأعداء واستعادة أراضينا. سيخلده التاريخ للأبد وأخرج من الحقيبة سلاح زوجها وعلم البلاد وقد اختلط بدماء الشهيد، فامتزجت مشاعر مضطربة فى وجدان الأم فعجزت عن الكلام، فما عساها تفعل؟ أتحزن بمقتل زوجها أم تزهو به بطلا حرر أرضها.. وتزاحم الصمت مع آهاتها حتى غلبها والتزمت به، وهنا تقدم الصغير نحو أمه لأنه لم يفهم ما قصده الجندى فى كلامه وسألها، "ألن يعود أبى إلينا؟" فأمسكت يده ونظرت إلى عينيه قائلة، لقد ضحى أبوك بنفسه من أجل تراب الوطن، فهو أغلى من أرواحنا. وهنا أمسكت الأم بحبات التراب وارتها للصغير، "انظر إليه مادام الوطن ينجب أمثال أبيك فلن يستطيع أحد من الأعداء أن يطأه، وناولته السلاح وأضافت، إنه لك، ووضعت على كتفه العلم ثم حملت صغيرها ودخلت به إلى المنزل بينما وقف الجنود فى حالة من الذهول من قوة هذه الزوجة وعشقها لبلدها وهى فى أمس الحاجة إلى رجل يساندها وهنا أدركوا أن مثل ذلك البطل كان لابد أن تكون وراءه مثل تلك المرأة.