عندما دخل التليفزيون لأول مرة منازل الناس، انقطع الحوار العائلى أو كاد، فكل فرد منشغل بما يشاهده، يكون أفكاره وتصوراته، بل ويجرى حواراته الصامتة مع ما يراه، ولكن العائلة كانت على أى حال مجتمعة فى نفس المكان، ولا تزال إمكانية الحوار بينهم قائمة، إلا أنه بعد أن توفرت إمكانية أن يصبح لكل فرد جهاز تليفزيون فى حجرته، وتزايد توالد الفضائيات كالأرانب، بدأ الانفصال يتعمق داخل العائلة. كان جهاز التليفون عندما يدخل بيتاً من البيوت، ويعمل بشكل طبيعى، يثير شعوراً بالتميز والخصوصية، حيث يصبح من الممكن استبدال الزيارات المنزلية بزيارات هاتفية، خاصة مع حالة المرور الصعبة فى الشوارع.. ثم اقتحم التليفون المحمول، كى يركز العزلة، فيمكن للمرء أن يتحدث فيه حتى فى دورة المياه، أو أثناء سيره فى الطريق.. ولا زلت أذكر تلك الحادثة التى دهست فيها سيارة رجلاً كان يتحدث فى المحمول، وتبين فيما بعد أن الجهاز الذى كان معه لا يزيد عن كونه لعبة أطفال ولكن المرحوم كان يريد أن يشعر مثل الآخرين بأن لديه محمولاً، وأنه يتحدث فيه. والآن أصبح أغلب الناس يعيشون فى العالم الافتراضى (Virtual reality )، أمام شاشات الحاسب الاليكترونى، يقرأون، يكتبون، يفرحون، يحزنون، يتحاورون، يتشاتمون.. إنسان وحيد فى حجرته يعيش عالماً بعضه من الخيال، وبعضه من الواقع، ولكنه رغم ازدحام الشبكة العنكبوتية.. وحيد.. الإنسان وحده فى حجرة مظلمة ينعكس على وجهه ضوء شاشة الحاسوب، يسقط كحشرة ضئيلة فى الشبكة العنكبوتية الإليكترونية، يمشى بعينيه على خيوطها الواهية، يتكعبل فيها وتلتف حوله كشرنقة خانقة، ولكنه يستسلم لسطوة العلم التى خلعته من مجتمع البشر وألقت به فى مجتمع الوهم والخيال، يمارس فيها حرية مطلقة، يختار الموضوع أو الشخص، يتكلم أو لا يتكلم، يقتنع أو لا يقتنع، فالمسألة أولاً وأخيراً افتراضية. انتشرت بسرعة وسيلة الزواج عبر الإنترنت، وتكاثرت المواقع الممتلئة بصور الراغبين والراغبات فى الزواج، آلاف وربما ملايين من الوجوه التى يزدحم بهم الأثير الإليكترونى، وكأنها أرواح هائمة فى فضاء إفتراضى تفتش عن السعادة، ومع كل صورة تقرأ كلمات لصاحبها، بعضها يصف نفسه: "أنا شاب مستقيم، أملك سيارة صغيرة، أقدس الحياة الزوجية "أو" أنا فتاة مودرن أحب الانفتاح والحياة، أعشق الرقص وموسيقى الجاز "، كما أن بعضهم يصف الزوج الذى يحلم به: "أريدها طويلة شقراء بيضاء تجيد اللغات الأجنبية، وترضى بالسكن مع أمى "، أو " أريده رجل، مجرد رجل يسترنى " .. إلخ أما الشباب اليافع فقد انتشر كالبراغيث فى كل أنحناء الشبكة العنكبوتية، وتكاثرت المواقع والمجموعات ذات الأهداف المختلفة، فبعضها تحت اسم فنان أو لاعب كرة شهير، وبعضها مخصص لخطابات دينية متشددة، وبعضها لتبادل الشتائم واللعنات .. إلخ، لقد وجد هذا الشباب متنفس لطاقاته الهائلة كى يفرغها فى هذا العفريت التكنولوجى، فهو أيضاً يستدعى لهم ما لذ وطاب من اللوحات الجنسية بالصوت والصورة. وهناك بالتأكيد من وجد فى هذا الكشف التكنولوجى العظيم بوابة يلج منها إلى بساتين المعرفة، وأنهارها المغدقة كى يغترف منها ويستزيد مما يكون قد فاته فى عصر ما قبل الشبكة العنكبوتية، ويتذكر المكابدة التى كان يعانيها وهو يغوص فى أمهات الكتب بحثاً عن معلومة صغيرة، والليالى التى أبيضت فى قراءة آلاف الصفحات، ثم تبخر كل ذلك مع تقدم العمر، بينما يسهل الآن تخزين المعلومات فى ذاكرة يمكن استدعاء أى شيئ فيها بمجرد نقرة على رأس فأرة الكومبيوتر. ومثل أى شئ آخر فى حياتنا، فهو إيجابى فى بعض جوانبه، وسلبى فى البعض الآخر، ويتوقف الأمر فى نهايته على الاختيار، فأنت تختار ما يتوافق مع شخصيتك ومزاجك وما تتوق إلى تحقيقه، فيمكن أن يضيع العمر فى استخدام الكومبيوتر كجهاز للألعاب المسلية، أو للمحادثات التافهة، أو لمشاهدة الصور الخليعة، يمكن كذلك أن يكتفى به الإنسان عن غيره من بنى البشر، فيصبح ليله ونهاره، يحاوره ويبثه أشجانه وأحلامه، حتى يمر العمر مثل مر السحاب، ولكن من الممكن بالطبع أن يستخدم هذا العفريت الإليكترونى للاستزادة من المعرفة، وتبادل الآراء والاستفادة من تجارب الآخرين. لقد تحولت الشبكة العنكبوتية إلى وحش هائل يفتح فكيه وهو يلتهم أفكار الناس وأحلامهم وأوقاتهم، مجرد رموز رقمية تومض فى سرعة البرق وتتجمع مثل سحابات سوداء ثم تهمى مطراً كالسيول، وتتوالى الرموز وتتكاثر وتتزاحم، يختلط فيها الصالح بالطالح، وتدريجياً ينزلق إليها الإنسان كى يغوص، وكأنها " النداهة " الشهيرة التى كانت تظهر للرجال على حواف الترع فى قرانا كى تغريهم بمتابعتها حتى الغرق. وهكذا تبدو المعادلة أنه كلما زاد العلم زادت عزلة الإنسان، فرغم التواصل عبر الشبكة العنكبوتية والذى يتيح اللقاء صوتاً وصورة، إلا أن ما تعكسه الشاشة ليس بالضبط الإنسان كما نعرفه، أن وجهه وصوته، بل أفكاره وأوهامه، مجرد ذبذبات إليكترونية، إذا انقطع التيار الكهربائى، اختفى الإنسان وتحول إلى كتلة من ظلام. تأثرت ذاكرة الإنسان المعاصر بهذا التقدم، فلم تعد قادرة على الحفظ والاستيعاب، فكل المعلومات يمكن حفظها فى شريحة صغيرة للذاكرة الإليكترونية، فلماذا يجهد العقل فى الحفظ والاستيعاب، وتبدو المسألة وكأنها تأخذ تطوراً قد يؤدى بالآباء إلى نسيان صورة أبنائهم، لأنهم يمضون طول الوقت أمام شاشة الحاسوب، ثم إن الصور محفوظة على الذاكرة الإليكترونية، وربما توصل العلم الذى يتقدم كل يوم إلى الإنجاب الإليكترونى، بحيث يصبح أطفالنا فى الغد، مجرد أطفال افتراضيين. ما تقدم ليس مبالغة.. أعرف صديقاً يتواصل مع زوجته أغلب الوقت عن طريق البريد الإليكترونى ورسائل المحمول القصيرة، لأن كلاهما مشغول فى أعماله، فهو يبثها مشاعره عبر ذبذبات الإليكترونات، بل ويرسل النكات، ويحكى لها الروايات، وهى تبادله ذلك بشكل إليكترونى، وكأنها عاطفة إليكترونية، ومشاعر رقمية.. لقد كان ملمس صفحات الكتاب الذى نقرأه يمثل علاقة حميمة مع الكتاب، وكأن الأصابع مثل العينين ترى وتفهم، وكان القلم فى عناق الأصابع يلثم السطور ويبثها الأحرف والكلمات، ورائحة الحبر كأنها عبير يفوح من بساتين الجنة، فإذا أرهقت العين أرخينا الكتاب على صدرنا، وكأنه حبيب يناجى القلب، نقلب صفحاته وكأنها رقراق من الماء نغسل به أرواحنا، وعندما يحل عيد الكتاب أثناء موسم معرض الكتاب السنوى، ننطلق إلى ساحات العارضين وقد ملأت البهجة قلوبنا، ونعود حاملين ما لذ وطاب من ثمار الكتب. لا بد أن نسلم بأهمية العلم، ولكن لا ينبغى أن نتخلى عن حقيقة الإنسان، وفى ظل القفزات التكنولوجية المتوالية من المهم أن نحاول الاحتفاظ برؤوسنا.. كيف يمكن أن نحقق التوازن بين ضرورة العلم وحيوية الحياة، أن نزور الشبكة العنكبوتية دون أن يموت الإنسان الحقيقى فينا ويتحول إلى مجرد إنسان افتراضى.. هذا هو السؤال... * عضو اتحاد الكتاب المصرى.