فى رائعته الأدبية (رجال فى الشمس) يحكى الكاتب غسان كنفانى قصة ثلاثة مهاجرين فلسطينيين من ثلاثة أجيال مختلفة.. أرادوا الذهاب للعمل فى الكويت، ولأن السفر بطريقة قانونية غير متاح، ولأن الهجرة عن طريق مهرب محترف تتكلف أموالا كثيرة فوق طاقتهم.. فقد قبلوا السفر مع سائق يحمل على عربته النقل صهاريج لنقل المياه.. وكانت زمن بقائهم فى الخزان عند المرور بنقاط التفتيش محسوبا بسبع دقائق لا أكثر.. عليهم أن يتحملوها ثم يخرجوا من الخزان بعدها فور تخطى نقطة التفتيش.. ومرت الأمور بسلام عند نقطة التفتيش الأولى.. وتحرك السائق قبل مرور الدقائق السبع.. إلا أن الأمر لم يمر كذلك فى نقطة التفتيش الثانية.. فالجنود فى تلك النقطة توقفوا طويلا للحديث والتسامر مع السائق- صديقهم الذى يعرفونه من زمن- بينما المهاجرون الثلاثة يموتون ببطء داخل الخزان المصنوع من الصاج المغلق تحت لهيب شمس أغسطس وسط الصحراء.. وحين مر السائق من نقطة التفتيش.. توقف ليطمئن على حمولته التى كانت قد أسلمت الروح.. فأخذ السائق الفلسطينى يسحبهم واحدا واحدا من داخل الصهريج الفارغ ويصرخ فيهم غاضبا ملقياً اللوم عليهم: لماذا لم تطرقوا جدران الخزان؟ وبعيداً عن البعد السياسى لهذه الصورة التى صنعها غسان كنفانى.. يأتى الرمز الإنسانى كخنجر ينغرس فى قلب كل من بنى البشر.. فلكل منا خزانه أو خزاناته التى تحيط به وتكاد تخنقه.. فمجتمعك خزان يفرض عليك قيوداً اجتماعية تكاد تقتلك لأنك فى داخلك لا تحبها، لكنك مضطر لقبولها إرضاءً للآخرين...والروتين اليومى الذى تعيشه هو خزان يكاد يخنقك وانت لا تستطيع كسره ولا التمرد عليه.. فقد انتظمت حياتك بهذا الشكل وانت لا تملك جرأة الخروج من الدائرة التى تدور فيها باختيارك .. وربما تكون العائلة هى خزانك الذى يكاد يقتلك.. فانت تتحمل مسؤلياتك دون حتى أن تفكر أن كنت راضياً عن كل ما تفعله.. خزان فوق خزان.. خزان حول خزان.. خزان داخل خزان..وانت فى النهاية محاصر داخل كل ذلك..ولا تملك القدرة ولا الشجاعة على كسر تلك الخزانات ولا حتى الشجاعة على إخراج رأسك منها..ولا حتى أضعف الإيمان، أن تطرق جدران الخزان لتعلن إحتجاجك .. لتقول ببساطة : أن الأمور لا تسير على مايرام .. لا تقبلوا البقاء داخل خزاناتكم طوال الدقائق السبع التى هى مدة حياتكم متناسبة مع عمر الكون.. حاولوا الخروج من خزاناتكم قبل أن تمر هذه الدقائق وتجدوا أنفسكم وقد مات الإنسان فيكم .. وتدركون ذلك حين تسحبونه من داخلكم وانتم تصرخون : لماذا لم تطرق جدران الخزان ؟