كانت ظهيرة رمادية تنذر بمطر قد يهطل فى أى وقت.. أسرع خطاه ليشاهد ما تبقى من تماثيل أثرية تنتصب كأشباح أسطورية فى جوانب حدائق التويليرى .. قالت (باسكال) إن قدميها تعبتا من المشى .. جلسا على رصيف مقهى مفتوح يحتسيان القهوة.. أكدت له أن قصص أصحاب هذه التماثيل كلها جاءت فى التوراة .. داهمه إحساس مفاجئ بالانقباض وقال لها بسخرية .. من المحتمل أن يكون قصر الأليزيه قد ورد ذكره فى التوراة أيضا ! أخذ يتأمل تقاطيع وجهها الجميل وهى تنفخ بفمها فى فنجان القهوة حتى تبرد .. تذكر لقاءهما الأول على رصيف محطة مترو (لا موت بيكيه) .. كانت منشغلة تماما بالقراءة عندما سألها عن رقم المترو المتجه إلى ( سان ميشيل) .. هل كانت فرنسيته ركيكة إلى هذه الدرجة التى أضحكتها ؟ لكن دهشته كانت بالغة عندما ردت عليه بعربية فصيحة بلكنة تلامذة المدارس الأجنبية.. يتذكر أنها اصطحبته إلى الحى اللاتينى حيث تفرجا على عرض مسرحى بانتومايم فى الهواء الطلق أمام نافورة سان ميشيل .. تجولا فى أزقة الحى الضيقة وعلى ضفة نهر السين .. حدثته عن دراستها للغة العربية فى معهد الدراسات الشرقية .. قالت أنها قرأت معظم أعمال توفيق الحكيم مترجمة إلى الفرنسية، وبشكل خاص أعجبتها روايته : عصفور من الشرق ! فاجأته بتحليل عميق لمضمون الرواية .. قالت إنها مثال لأزمة المثقف الشرقى عندما يحتك بالحضارة الغربية للمرة الأولى، وانبهاره الشديد بعوالم تتناقض مع تكوينه النفسى والعقلى والثقافى، بشكل يحدث خلخلة حادة لبنائه الداخلى، ويفرز كيانا جديدا مشوها يعجز عن العودة إلى جذوره عصفورا شرقيا، أو حتى عصفور كناريا محبوسا داخل قفص يتدلى من سقف شرفة باريسية ! صمتت باسكال قليلا ثم باغتته بالسؤال التالى : وأنت أيها العصفور الشرقى، ما الذى أتى بك إلى باريس ؟! التساؤل وضعه عاريا أمام نفسه : لماذا أتى الى عاصمة النور، هل هو عصفور آخر من الشرق جاء يبحث عن صيغة (توفيقية) تجمع بين ثقافة شرق العالم وغربه، وما الذى يمكن أن تقدمه هذه المدينة باستثناء العطور والأزياء وملاهى البيجال والسيقان العارية .. والأفكار المغشوشة ؟! ساد بينهما صمت طويل استثمره فى التطلع إلى تفاصيل وجهها الجميل : كانت تحاول أن تخفى ارتباكها بمطالعة مجلة (هي) التى تحملها، تضرج وجهها احمرارا وارتعد جفن عينها اليسرى .. دقق النظر فى جبهتها العريضة الناصعة وحاجبيها الشبيهين بقوس قزح .. ملامح الوجه الجميل تشى بأن هذا الابداع نتاج تمازج أعراق غربية وشرقية ربما فى الجذور البعيدة، فهل تكون باسكال نموذجا متجسدا لالتقاء الشرق والغرب فيزيقيا رغم صعوبة هذا التمازج والانسجام فى الجوانب الثقافية والحضارية ؟ أعياه البحث عن إجابة فعاود الحملقة فى عينيها الواسعتين الزرقاوين . فجأة هطلت الأمطار بغزارة .. تركته باسكال وأسرعت بدخول المقهى .. وقف منتصبا على قدميه .. فرد ذراعيه على اتساعهما ورفع وجهه الى السماء يستقبل المطر وظل مستمرا فى وقفته، مثل تلك التماثيل الأسطورية المتناثرة فى حدائق التويليرى .. التى ورد ذكرها فى التوراة ! * [email protected]