قالت ممثلة الدولة الأجنبية الكبيرة للدبلوماسى المصرى الشاب باستنكار: "هل تريد مثلاً أن تغير معالم روما؟ "، وكان ذلك فى مؤتمر دولى لإعداد إتفاقية لإعادة المقتنيات الثقافية المسروقة إلى بلادها الأصلية، أجابها باحترام وحزم: "سيدتى.. أنا لا أمانع من أن تفخر روما بهويتها الثقافية الأصلية، ولكن أن تتجمل بهوية مسروقة فذلك يشبه من تسرق مجوهرات جارتها ثم تدعى أن هذه المجوهرات تناسبها أكثر من صاحبتها الأصلية". كان الدبلوماسى المصرى يقاتل فى تعديل وتغيير كل مادة تقريباً، ولكن أشد القتال كان حول المادة التى تنص على "مبدأ عدم رجعية الاتفاقية"، أى أنها تسرى فقط بعد دخولها حيز النفاذ، وبالتالى فإن كل ما تنص عليه بشأن المقتنيات الثقافية المسروقة لا يطبق إلا بعد هذا التاريخ. أعد الدبلوماسى خطة للتعامل مع هذه المادة، وظل طوال الليل فى حجرته الضيقة بالفندق الكائن على ناصية شارع " فيا بينتو " ساهراً يعد الحجج القانونية واحتمالات الردود المختلفة، كان يعرف أنه فى الغد سيواجه بمعارضة شديدة، خاصة وأن "مبدأ عدم الرجعية" من الأصول القانونية الثابتة، كما أن المؤتمر نفسه سبق له تمرير هذه المادة دون معارضة من أحد خلال مؤتمرات سابقة، وسيكون عليه وحده مواجهة عتاة المستشارين القانونيين للوفود الأخرى. وعندما كان متوجهاً إلى مقر المؤتمر تأمل من نافذة السيارة إلى المسلات الفرعونية المصرية المتناثرة فى ميادين روما وكأنها فى الأسر تتطلع إليه كى يخلصها، فازداد شعوره بالهم والمسئولية. كان قد أعد ثلاثة مقترحات، أولهما يقترح فيه أن تنص المادة على رجعية الاتفاقية، وثانيهما أن تنص على رجعيتها لمدة مائة عام، والثالث إلغاء نص مادة عدم الرجعية من صلب الاتفاقية، وتوجه إلى إحدى سكرتاريات المؤتمر وطلب منها أن تتعاون معه بحيث تقوم بتوزيع الاقتراح الأول على الوفود بمجرد بدء الجلسة، ثم تنتظر حتى يعطيها إشارة معينة فتقوم بتوزيع المقترح الثانى، ثم بإشارة أخرى تقوم بتوزيع المقترح الأول. ما أن قرأت الوفود المقترح الموزع أمامها حتى ثارت ضجة هائلة داخل القاعة، وتحدث رئيس المؤتمر ( وكان سويسرى وأحد أشهر أساتذة القانون الدولى)، طلب من الدبلوماسى الشاب أن يشرح إقتراحه، فتحدث بإسهاب وهو يتعمد الإطالة لعلمه أن ذلك كان اليوم قبل الأخير للمؤتمر، وأن كل الوفود ترغب فى الانتهاء من جلسات اليوم حتى يتاح لها التمتع ببعض الوقت والتسوق فى روما، حتى طلبت إحدى السفيرات التى ترأس وفد دولة كبرى نقطة نظام كى تشير إلى أن هذه المادة سبق مراجعتها فى المؤتمرين السابقين ولم يعترض عليها أحد، وطلبت عدم مواصلة المناقشة، وطلب سفير آخر الكلمة كى يتحدث مستشار وفده القانونى العجوز حيث قام الرجل بعرض رائع عن أصل مبدأ عدم الرجعية بشكل يهدم مقترح الدبلوماسى المصرى الشاب تماماً، فقال الرئيس أنه يتصور أن وفد مصر قد اقتنع، فرفع الدبلوماسى المصرى يده طالباً الكلمة، ثم قال: "إنه يشكر العرض القانونى الرائع الذى تقدم به من سبقه، ولكنه يريد أن يذكر الجميع أن الهدف من هذه المؤتمر ليس ترديد المسلمات، وإنما محاولة التفكير والإبداع لتعديل بعض المفاهيم التى لا تتناسب مع موضوع الاتفاقية، ثم شرح ما تمثله الآثار المصرية للإنسان المصرى، وأنها جزء من الهوية الثقافية للشعب التى تمت سرقتها فى أزمان ماضية، وأنه لا يستقيم أن نوافق على مبدأ عدم رجعية الاتفاقية لأن ذلك يعنى إقرارنا بشرعية ما تم سرقته قبل دخول الاتفاقية حيز النفاذ، ودعا باقى الوفود إلى المشاركة بالفكر والرأى لإيجاد حل لهذه المعضلة. وكان قد نسق مع رئيس وفد اليونان وبعض الوفود الأخرى الصديقة، وبالتالى فقد طلب كل منهم الكلمة، وفوجئ الرئيس الذى قال أنه لم يتوقع أن تثير هذه المادة أى إشكال، وتوالت الكلمات المؤيدة لاقتراح الدبلوماسى المصرى حتى عادت نفس سفيرة الدولة الكبيرة تطلب فى نفاذ صبر نقطة نظام معترضة على مواصلة النقاش، وكاد الرئيس أن يطلب التصويت مضطراً كى يحسم المسألة، وكان من الواضح أن التصويت سيؤدى إلى إقرار المادة كما هى، ولذلك فقد سارع الدبلوماسى المصرى بالإشارة إلى السكرتيرة كى توزع المقترح الثانى وهو يطلب الكلمة مرة أخرى، فقال له الرئيس أنه تحدث أكثر من مرة، وأنه سيعطيه الكلمة إذا كان ينوى حل المشكلة، فأكد له أنه احتراماً لوقت المؤتمر ولباقى الوفود فإنه يتقدم بحل وسط ستقوم السكرتارية بتوزيعه فوراً. بمجرد أن قرأت الوفود المقترح الجديد حتى ثارت نفس الضجة وارتفعت الأيادى تطلب الكلمة، بينما لاحت ابتسامة على وجه رئيس المؤتمر وهو ينظر بلوم للدبلوماسى المصرى الشاب، ثم بدأت مناقشة المقترح الجديد ما بين مؤيد ومعارض، واحتدم وطيس النقاش، وتدخل الدبلوماسى المصرى أكثر من مرة، مؤكداً أنه قدم تنازلاً كبيراً وهو يرجو أن تتعاون الوفود المعارضة بإبداء نفس الروح، وهنا طلبت ممثلة الدولة الكبيرة الكلمة ودار الحوار الذى صدرت به هذا المقال، ووفقاً لتنسيق مع اليونانى قام بطلب رفع الجلسة للاستراحة، ووافق الجميع. أثناء الاستراحة اقترب الأستاذ السويسرى من الدبلوماسى المصرى وأحاط كتفه بذراعه وهو يعرب له عن إعجابه بالدبلوماسية المصرية، ولكنه تساءل عما إذا كان الفراعنة لديهم حل للخروج من المأزق لأنه لا يفضل اللجوء للتصويت، فشرح له الدبلوماسى المصرى أنه تقدم بتنازل كبير ولا يمكنه التراجع أكثر من ذلك، ولكنه احتراماً لرغبة الرئيس سوف يحاول التفكير فى صياغة جديدة، فوعده الرئيس بدعوة على الغذاء لو ساعده فى إنهاء ذلك الموضوع . بعد الاستراحة، استمرت المناقشات بينما الرئيس ينظر تجاه الدبلوماسى المصرى الذى كان يشير له بالتريث، وعندما شعر أن الأغلبية قد بدأت تأخذ منحى التصويت مرة أخرى، أشار إلى السكرتيرة وطلب الكلمة حيث تحدث بتأثر عن دهشته لمعارضة البعض لاستعادة الحقوق، رغم أنهم من أساتذة القانون، وقال إنه لو تعارض نص قانونى مع حق أصيل، فإنه ينبغى تغيير هذا النص، ثم تحدث عن الحضارة المصرية وأثرها فى التاريخ البشرى، وهنا قاطعه الرئيس متسائلاً عما إذا كان هناك اقتراح يمكن للحضارة المصرية أن تقدمه لتحقيق توافق الآراء، فقال الدبلوماسى المصرى بضيق مفتعل إنه احتراماً لرغبة الرئيس فى التوافق، فإن وفد مصر يقدم مقترحاً جديداً، ثم أشار إلى السكرتيرة كى توزع المقترح الثالث. ما أن قرأت الوفود المقترح حتى علت فى القاعة أصوات الارتياح، بل أن بعضها قام بالتصفيق، تساءل الرئيس عما إذا كان هناك اعتراض على إلغاء نص المادة الخاصة بعدم رجعية الاتفاقية، وعندما لم يعترض أحد طرق المنضدة قائلاً، وهو يتنفس الصعداء: " تلغى المادة.. رفعت الجلسة". على مائدة الغذاء فى مطعم إيطالى صغير، وبناء على دعوة أستاذ القانون الدولى السويسرى العجوز، جلس الدبلوماسى المصرى يتناول الغذاء معه، قال له الأستاذ ضاحكاً يبدو أنك خططت للوصول إلى هذه النتيجة منذ البداية، ولكن إلغاء المادة لا يعنى عدم سريانها، لأن مبدأ "عدم الرجعية" هو من المبادئ العامة للقانون، فأجابه الدبلوماسى بأنه يدرك ذلك، إلا أن أهون الضرر هو التشكيك فى المبدأ، وهو ما حدث بالفعل، لأنه يمكن الاحتجاج بالرجوع للأعمال التحضيرية للاتفاقية لإثبات أن المؤتمر ألغى النص على مبدأ عدم الرجعية بعد مناقشات عديدة، أى أن هذه الاتفاقية استثناء على القاعدة العامة.. رفع الأستاذ حاجبيه مبدياً إعجابه، وسأله أين درس القانون؟، فقال له الدبلوماسى، فى كلية الحقوق جامعة عين شمس. كان الدبلوماسى المصرى الشاب يجلس فى الحافلة عائداً إلى الفندق، تأمل فى المسلات المصرية، وكأنها أذرع تلوح له بسعادة، ومن المصادفات الغريبة أن ذلك اليوم كان يحمل تاريخ السادس من أكتوبر.. عاد إلى حجرته كى ينام بعمق. عضو اتحاد الكتاب المصرى.