اختتمت فعاليات مؤتمر "نحو استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرف"، اليوم الاثنين، والمنعقد بمكتبة الإسكندرية فى الفترة من 3 إلى 5 يناير 2015 تحت رعاية رئيس جمهورية مصر العربية الرئيس عبد الفتاح السيسى، بمشاركة ما يربو على مائتى وخمسين مثقفًا من العالم العربى، بشكل عكَس تنوعًا عربيًّا ثريًّا سواءً فى الانتماءات السياسية والفكرية، أو المعتقدات الدينية، أو الشريحة العمرية أو النوعية، وقدَّم نموذجًا يُحتذى فى الحوار البنّاء القائم على احترام الاختلاف، والتنوع الخلاّق، وقبول الآخر. وأشار البيان الختامى للمؤتمر إلى أن انعقاد المؤتمر جاء فى ظل مرحلة فارقة تمر بها المنطقة العربية، التى باتت تشهد تحديات جمة أبرزها حالة السيولة وإعادة تشكيل النظم السياسية إثر الثورات الشعبية فى بعض الدول، وظهور تنظيم "داعش" الذى يرتكب أبشع الممارسات فى حق الإنسانية تحت شعار الإسلام، وتصاعد خطاب التطرف والكراهية دينيًّا ومذهبيًّا وسياسيًّا، وما يقترن بذلك من ممارسة العنف بكافة أشكاله، وانجراف شعوب بعض الدول إلى حروب أهلية، أو فى نزاعات قبلية قديمة يجرى إحياؤها من مرقدها، واستشراء مظاهر الاستقطاب فى عدد من المجتمعات العربية على أسس مذهبية ودينية وعرقية بما يحمل فى ذاته نُذر التقسيم الجغرافى، وتهديد الهوية الوطنية الجامعة لكل المواطنين على اختلافهم وتنوعهم. خلص المشاركون بعد حوارات مستفيضة فى جلسات عامة وأخرى متوازية على مدار ثلاثة أيام إلى أن التطرف ظاهرة سلبية تجثم على صدر المجتمعات الإنسانية قديمًا وحديثًا، ويبرز من بين مظاهرها المختلفة "التطرف الدينى" الذى يقترن بالغلو والتشدد فى الخطاب، وما يرتبط بذلك من لجوء إلى العنف، ورفض المختلف إلى حد قد يصل إلى تكفيره، بل ومحاولة إقصائه بشكل كلى. بيد أن التطرف لا يقتصر على النطاق الدينى بل يمتد أيضًا إلى المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية التى يسودها الاستقطاب، والأحادية فى التفكير، والشعور بالاستعلاء والسمو الزائف، وتوهم امتلاك الحقيقة المطلقة، والانزلاق إلى الثنائيات وحرب الأضداد التى تقلص من المساحات المشتركة بين المواطنين، والقوى السياسية، والتيارات الفكرية. ورأى المشاركون أن التطرف له أسباب عديدة، من أهمها، التعليم والتنشئة الاجتماعية على ثقافة الاستعلاء ورفض الآخر والتسفيه منه وتراجع التفكير النقدى وانتفاء ثقافة المشاركة، الخطابات الدينية المتعصبة التى تستند إلى تأويلات وتفسيرات خاطئة، مفارقة لصحيح الإسلام ومجافية لروح الأديان كلها من الحفاظ على القيم الروحية النبيلة التى تعتمد على المحبة والرحمة والتسامح، وتنبذ التعصب والكراهية، الفقر والأمية والجهل؛ تلك الثلاثية التى تدفع الشخص إلى الانسياق وراء خطاب دينى مشوّه وفتاوى وتأويلات مغلوطة، وآراء ضيقة الأفق، ومناخ معادٍ لثقافة الاختلاف، وفى أحيان كثيرة تكون "المرأة" فى مقدمة ضحايا التطرف نتيجة لتعثر مسيرة التنمية الثقافية والاجتماعية فى المجتمعات العربية، الشعور بالقهر نتيجة المعايير المزدوجة فى العلاقات الدولية تجاه قضايا العرب والمسلمين، والتى يأتى فى مقدمتها استمرار القضية الفلسطينية واحتلال الأراضى العربية فى ظل تقاعس المجتمع الدولى عن اتخاذ موقف حاسم وحازم إزاء، تنامى دور قوى فاعلة، سواء كانت دولاً وجماعات فى إذكاء التطرف، ورصد الموارد المادية والبشرية لتأجيج العنف فى المجتمعات العربية بهدف خدمة مصالحها من ناحية، وإضعاف الأوطان العربية، وتمزيق أواصرها، وعرقلة انطلاق مسيرة التقدم بها من ناحية أخرى، غياب قادة ورموز الفكر القادرين على مواصلة مسيرة سابقيهم من رواد النهضة والتنوير فى العالم العربى، والذين قدموا اجتهادات ملهمة نجحت فى المزج بين الأصالة والمعاصرة وتحديث بنية المجتمعات العربية دون انقطاع عن جذورها الحضارية وأصولها الثقافية. وقد اقترن تراجع تيار التحديث بتصاعد خطابات متزمتة فكريًّا، متطرفة دينيًّا، سلطوية سياسيًّا، منغلقة اجتماعيًّا، انتشار العديد من المنابر الإعلامية المحلية، والإقليمية التى تبث رسائل تحض على التطرف والكراهية، وتسىء إلى وسطية الفكر الدينى المعتد، الآثار السلبية للموروثات والعادات الاجتماعية والقيم الثقافية التى أنتجت تشوهات ثقافية واجتماعية تذكى نعرات الاستعلاء ضد المختلف وتشعل نيران الطائفية العرقية والمذهبية. وقد أسفرت النقاشات التى دارت خلال المؤتمر عن التوصل إلى توصيات محددة تدور حول المحاور الرئيسية التى يمكن من خلالها مكافحة ظاهرة التطرف، وذلك على النحو التالى، أولاً الخطاب الدينى: أوصى بتصدى المؤسسات الدينية للمفاهيم التى تروج فى المجتمع خاصةً بين الشباب، وفى مقدمتها التفسيرات المشوهة لمفهوم الجهاد والردة ووضع المرأة، وكذلك الدعوة إلى تغيير الأوضاع القائمة بالعنف والخروج عن دولة القانون والمؤسسات، وفتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة والاعتراف بالمنظور التاريخى للتشريع وتطويره للتلاؤم مع مقتضيات العصر وإحياء جهود المجددين من أعلام الإسلام والتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان. ثانيًا الثقافة: حيث أوصى المؤتمر بمراجعة القوانين واللوائح والممارسات الإدارية على النحو الذى يعزز الانطلاق الحر للفكر والإبداع فى المجتمع، ويزيل العقبات التى تحول دون حرية الرأى، والتصدى لمحاولات فرض الوصاية الفكرية أو الرقابة الدينية، والتوسع فى إصدار الكتب والمؤلفات التى تدعم العقلانية والاستنارة، وتنشر الفكر النهضوى، وتحارب الخرافة والتطرف وتفتح الأبواب للتفاعل الخلاق مع منجزات الثقافة الإنسانية فى العلوم الطبيعية والإنسانية، وتشجيع الأعمال الفنية الراقية التى تهدف إلى النهوض بثقافة النشء وتنمية المواهب وصقلها فى المؤسسات التعليمية والثقافية بشكل منهجى منظم، وتشجيع نشر الفنون واكتشاف المواهب الخلاقة، تيسير الوصول إلى المنتج الثقافى من خلال التوسع فى إنشاء المكتبات والمراكز الثقافية والأندية الأدبية، وكذلك مراكز الفنون التعبيرية والتشكيلية والموسيقية، وتطوير المتاحف التى تجمع التراث الثقافى المشترك للشعوب، الإفادة من النشر الإلكترونى، وتدشين مواقع التواصل الاجتماعى بين الشباب تهدف إلى محاصرة التطرف، وثقافة العنف، وتدعيم حرية الفكر ونشر الفنون الجميلة بكل الوسائل، تدشين "مرصد لمجابهة التطرف" بمكتبة الإسكندرية على غرار مرصد الإصلاح العربى لمواجهة فكر التطرف، وتجميع المبادرات الثقافية الرامية لمواجهته. ثالثًا التعليم: أوصى المؤتمر بالدعوة إلى توحيد نظم التعليم– على الأقل فى مرحلة التعليم الأساسى– ومنع الازدواجية بين تعليم مدنى وآخر دينى أو أجنبى لضمان تشكيل العقل العربى دون تشرذم أو اضطراب والاعتماد على التوازن المعرفى بين العلوم الطبيعية والإنسانية وتربية وجدان النشء على تكوين المهارات الإبداعية والفنية، وترسيخ ثقافة الديمقراطية، تحديث النظم التعليمية بغية تعزيز قيم التعددية والتعايش الإنسانى، وتوفير المعارف الأساسية الخاصة بتاريخ الحضارات والأديان، والارتقاء بمستوى الوعى بمخاطر التطرف والانغلاق الفكرى، وإبراز مساهمته كل العرب من مختلف الأديان والمذاهب والأعراق فى بناء الحضارة العربية والاحتكام للعقل وتنمية المدارك، التأكيد على أهمية "التربية المدنية" فى برامج التعليم، خاصة قبل الجامعى، لما لها من تأثير على تشجيع قيم المشاركة، والتطوع، والعمل المشترك، وحقوق الإنسان والإيمان بأهمية التنوع فى إدارة العمل؛ مما يعزز التنوع، والتعددية، بدلاً من الأحادية والانغلاق، وضع برامج لتطوير القدرات الإبداعية فى التعليم (الموسيقى والتصوير والشعر والمسرح والأدب وغيرها) لبناء جيلٍ مبدع يسهم فى تعزيز البناء الثقافى للمجتمع، وضع برامج لتطوير المكتبات المدرسية، وتجهيزها بأحدث المتطلبات للارتقاء بدورها فى تشجيع القراءة والإطلاع الرامى إلى تنمية التفكير الحر الناقد والمبتكر، وضع برامج بحثية بالشراكة بين المؤسسات العربية، تنصب على ظاهرة التطرف، بمشتملاتها المتعددة، والعمل على إصدار وثائق مرجعية- على الصعيد العربى- تتناول القضايا ذات الصلة، تنقية برامج التعليم الدينى من الأفكار التى تشجع التطرف، والعنف، أو تستند إلى فهم خاطئ للنصوص الدينية. رابعًا الإعلام: أوصى المؤتمر بحث المؤسسات الإعلامية على الالتزام بالمواثيق المهنية والأخلاقية، والتى تتضمن الابتعاد عن الخطابات المتعصبة، أو ترويج آراء من شأنها بث روح الفرقة والانقسام بين المواطنين، أو إثارة السجالات الدينية أو المذهبية، أو التنابذ السياسى، أو القبلى أو العرقى، إطلاق مبادرة عربية لمراجعة المعايير المهنية والأخلاقية وسنّ التشريعات التى تجرّم نشر المواد الإعلامية التى تبث الكراهية وتحرِّض على العنف، وتدشين برامج إعلامية مشتركة بين وسائل الإعلام العربى تفند فكر التطرف، وتهتم بقضايا العلم والتنوير، وتكشف الممارسات اللاإنسانية المنافية للدين والأخلاق والقيم التى تمارسها التنظيمات المتطرفة ضد المواطن العربى، الالتزام بالبث فى ساعات الذروة للمواد الإعلامية ذات المستوى الثقافى الرفيع من مسرح عربي، وموسيقى، وسينما، وفنون تشكيلية، وعروض للكتب الفكرية وسير وتراجم لكبار الأعلام، واكتشافات علمية وتكنولوجية. وإلى جانب المجالات الأربعة المشار إليها، فإن المشاركين تدارسوا قضايا أخرى مثل: تدعيم التعددية الدينية، ونشر مساهمة المسيحيين العرب فى بناء أوطانهم، وتعزيز المواطنة، والحفاظ على كيان الدولة الوطنية القانونية الدستورية الحديثة، ومواجهة كافة مظاهر العنف والتمييز التى تتعرض لها المرأة على الصعيدين القانونى والعملى آخذين فى الاعتبار أن المرأة والأطفال والأقليات العرقية وغير المسلمين فى مقدمة الفئات التى تعانى من التطرف والإرهاب فى المنطقة العربية، وأكد المشاركون على أن التصدى للتطرف رغم أنه يتطلب مواجهة أمنية، إلا أنها تظل غير كافية، وهو ما يستدعى ربط الأمن بالتنمية، ومواجهة الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعى الذى يتفشى فى العديد من دول المنطقة والحرص على تنمية التجارب الديمقراطية السليمة. وأكد المشاركون أن مبادرة الدولة المصرية التى تجسدت فى عقد المؤتمر بمكتبة الإسكندرية ينبغى أن تمثل بداية حقيقية لعمل ثقافى مشترك يمتد إلى سائر البلدان العربية عبر سلسلة من المبادرات المشتركة بدعم ومساندة جامعة الدول العربية، آملين أن تشكل "مواجهة التطرف" أحد مجالات العمل العربى المشترك، ثقافيًّا وتعليميًّا وإعلاميًّا وأمنيًّا، الذى يستمر بخطى متسارعة انطلاقًا من اعتقاد أساسى أن مستقبل المنطقة العربية مرهون بقدرتها على محاصرة التطرف، والمضى على طريق العقلانية، والاستنارة، والتنمية، والتسامح، والتقدم.