نقلا عن اليومى.. «إنهم يصنعون البشر».. حكمة قالها الفيلسوف الأمريكى فانس بكارد «22 مايو 1914 - 12 ديسمبر 1996» واختارها عنوانا لكتابه المهم عن العظماء وكيفية صناعة شخص أو مجموعة من البشر لكيان عظيم، والكتاب الذى صدر فى جزأين وحمل الرقم 145 ضمن سلسلة الألف كتاب الثانى للهيئة العامة للكتاب عام 1994، تحدث عن تلك الظاهرة فى البشر الذين يصنعون وعى أقرانهم البشر، حتى وإن كانوا بشرا مختلفين فى التكوين والإنشاء والمعمار النفسى، وهو الأمر ذاته الذى أكده المؤرخ وعالم النفس الأمريكى كارل روجرز «8 يناير 1902 - 4 فبراير 1987». من خلال العالمين السابقين اللذين تطابقت وجهتا نظريهما عن العظمة والعظماء، يمكننا فهم كيف تكونت تلك الظاهرة الشعرية الاستثنائية التى جمعت تاريخ العرب ولغتهم وثقافاتهم بين دفتى ديوان اسمه «الشوقيات». ولأن أمير الشعراء أحمد بك شوقى «16 أكتوبر 1868 - 14 أكتوبر 1932» شاعر ذاع صيته فى العالمين وتناوله الناس بالقراءة والنقد والدراسة والتحليل والتبجيل فإن الواجب عمله من وجهة نظرى فى الذكرى ال82 لرحيله، هو البحث فى طبيعة هيكله النفسى والسر وراء كونه أحد الأدباء القلائل الذين صنعوا عقائد بشر مثلهم وصنعوا مجدا لهم ولغيرهم يضاهى مجد الفاتحين ويوازى أكاليلهم وصنعوا خلودا يليق بذواتهم بوصفهم رجال رحلوا وما رحلوا! مفتاح شخصية شوقى إذا أردنا أن نتتبع سيرة شوقى ونتذوق أشعاره فى دنيا الأدب ونتعرف على الطريقة التى مكنته من رسم تلك الصورة فى أذهان قراء العربية فإن الثقافة الموسوعية تبدو أمام أنظارنا مفتاحا وحيدا لشخصيته على الورق أو حتى فى سيرة الحياة، فكيف لرجل لا يمتلك ثقافة موسوعية أن يطوع اصطلاحات ومرادفات من أعماق التراث العربى ويضعها فى موضعها دون أن يشعر القارئ أن اللفظ تم إقحامه فى النص؟!. دلائل ثقافته الموسوعية ودلالاتها فى قصيدته الخالدة «ولد الهدى» التى وقفت أمامها السيدة أم كلثوم مشدوهة لا تعرف كيف لبشر مثلها أن يصوغ ضادها بتلك السلاسة والنبوغ، ثم اختارت عددا من أبياتها لتخلدها هى الأخرى بصوتها الاستثنائى فى آذان العرب يقول شوقى فى البيت السادس: نُظِمَت أَسامى الرُسلِ فَهى صَحيفَةٌ فى اللَوحِ وَاِسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراء واختيار شوقى للفظ «طغراء» «تعنى كما ورد بالمعجم الوسيط ما يكتبُ فى أَعلى الكُتُب والرسائل غالبًا، ويتضمَّنُ نعوتَ الحكام وألْقابهم، وأصلها طورغاى، وهى كلمةٌ تَتَرِيَّةٌ استعملها الرومُ والفُرْسُ ثم أَخَذهَا العرَبُ عنهم» يشى بأمرين، الأول: أن الرجل ألم تماما بكل ثقافات من سلفوه بمن فى ذلك غير العرب كما مارس كل أنواع الإخضاع الطوعى للمرادفات لإخراج أساليب معمارية تخصه وحده فى عالم الشعر الفصيح الموزون المقفى. وفى قصيدته التى كتبها فى رثاء صديقه المناضل الوطنى مصطفى كامل يكتب الحكم ويصوغ الأمثال معبرا عن عميق فهمه لبواطن الأمور وإدراكه التام لما فى النفس البشرية من صراعات وتناقضات ومآلات من ذلك الأبيات المتفرقة التالية: الناسُ غاد ٍفى الشقاءِ ورائحٌ يَشْقى لها الرُّحَماءُ وهْوَ الهانى الناسُ جارٍ فى الحياة لغاية ومضل لٌيجرى بغير عنانِ المجدُ والشَّرفُ الرفيعُ صحيفة جعلتْ لها الأخلاقُ كالعنوانِ دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة له إنَّ الحياة دقائقٌ وثوانى فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها فالذكرُ للإنسان عُمر ثانى وهكذا يقحمنا شوقى قسرا وطواعية فى سباق محموم تقف فيه شعيرات رؤوسنا إعجابا وذهولا من جمال المرادفات. يصنع الخلود ويصنع البشر أيضا لن يكون من قبيل المبالغة القول، إن شوقى فضلا على أنه صنع مجدا خاصا به، فإنه كذلك صنع مجدا بشريا إلى جواره حين قرر أن يتبنى موهبة الفتى محمد عبد الوهاب الذى أصبح فيما بعد موسيقار العربية الأعظم فى القرن العشرين ولقب بموسيقار الأجيال، بعد أن استمع إليه وهو يغنى فى عمر المراهقة فى فرقة فوزىالجزايرلى، ثم أسكنه معه وخصص له حجرة بمنزله، ثم لم يكتف بذلك بل كتب له خصيصا، وبالعامية المصرية كلمات 13 أغنية ومنها: النيل نجاشى وفى الليل لما خلى، وبلبل حيران، وإللى يحب الجمال. وللدلالة على تلك الحالة يثور السؤال: كيف كان حال عبد الوهاب لو لم يتعهده شوقى بالرعاية والكتابة؟! هل كان سيصبح موسيقارا عظيما؟ أم كانت ستندثر موهبته وتهيل عليها الأيام غبارها الرمادى الكئيب كما فعلت مع عشرات وعشرات من نوابغ هذا البلد الذين عاشوا وقضوا دون أن يعرفهم أحد! خلاصة ما أعلاه.. تشير الحقائق المذكورة فى الأسطر السابقة إلى أن أحمد شوقى فى أدبه ومضامين أفعاله وتعاطيه مع نفسه ومع موهوبى عصره، يؤهل المرء إلى اكتساب طاقة فضول كبرى، تلك الطاقة التى تكتنف البحث الأدبى والتاريخى والنفسى لعظماء المصريين والعرب، الذين صوروا قدرة خلق الله على صناعة المجد لأنفسهم وصناعة البشر العظماء أيضًا.