نقلا عن اليومى.. قبل عشرة أيّام من الآن، الاثنين 25 أغسطس الماضى، ارتفعت أضواء المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية على كوكبة من نجوم الفن والثقافة، تقدّمهم الوزير الدكتور جابر عصفور، والمخرج المسرحى ناصر عبد المنعم، رئيس قطاع شؤون الإنتاج الثقافى ورئيس المهرجان القومى للمسرح، والفنان فتوح أحمد رئيس البيت الفنى للمسرح، وعدد من المسؤولين والفنانين وعناصر 44 عرضًا مسرحيًّا- من قطاعات الوزارة والمسرح الجامعى والمستقل- شاركوا فى فعاليات المهرجان، فى احتفال الختام وتوزيع الجوائز. اليوم، وبحلول المساء، ترتفع إضاءة مغايرة، وتُسدَل ستائر مسارح مصر من جنوبها لشمالها، وربما تجتمع قاعات العرض وتجهيزات الصوت والإضاءة ومحتويات مخازن الملابس والديكور ودروع وشهادات تقدير مهرجاناتنا المسرحية على تنوّعها وتاريخها الطويل فى بقعة هادئة بالقرب من نيل مدينة بنى سويف، اليوم ترتفع دقّات المسرح الثلاث فى سماء المدينة ريفية الطابع، ويستعد ملائكة السماء لمتابعة «ريبرتوار» سنوى لأهم عروض وفواجع الثقافة والمسرح المصريين، اليوم يشتعل العرض التاسع لذكرى محرقة مسرح قصر ثقافة بنى سويف، ويتأهب مسرح السماء لاستقبال فنّانيه مجدَّدًا، وسحب الأضواء وأصداء التصفيق والضحكات من مسارح الأرض. الاثنين 5 سبتمبر 2005، ليلة جديدة وعادية من ليالى مهرجان نوادى المسرح الذى تقيمه هيئة قصور الثقافة سنويًّا، العرض «من منّا؟» للمخرج محمد منصور ونادى مسرح طامية بمحافظة الفيوم، عن نص «حديقة الحيوان» للكاتب العالمى إدوار ألبى، ولافتقار أغلب قصور الثقافة لقاعات تصلح لعروض مسرح الغرفة اختار مسؤولو المهرجان قاعة الفن التشكيلى لإقامة العرض، القاعة مساحتها حوالى 80 مترًا، بها بابان أحدهما صدئ ومُغلق بسلاسل حديدية، والآخر لا يزيد اتساعه على متر واحد، أبناء الفقر الإبداعى والجمال المتقشّف مضطرون للموافقة على ما يتيسّر ويوفّره السادة المانحون وأباطرة الثقافة، بدأ العرض وتفانى الهامشيون والإقليميون كعادتهم، أبدعوا ونالوا ما اعتادوا عليه من صدى طيّب لدى الجمهور والمتابعين وأعضاء لجنة التحكيم، إظلام أخير وإضاءة كاشفة ترتفع معها أنوار القاعة، الممثّلون والمخرج يستعدّون لتحية الجمهور قبل حزم أمتعتهم ومساعدة زملائهم فى تجهيزات عرض اليوم التالى، «فيكس» ربما لا يتعدّى بضعة ثوانٍ، ثبات سريع للغاية ولكنه يكفى لاستعادة أشرطة الذكريات ومدوّنات الطموح والأحلام وصور الحبيبات والأهل ووعود الفن والتغيير والانطلاق إلى سماوات العلبة الإيطالية ومخمليّة الاستوديوهات وشاشات السينما، هل استعدتم ذكرياتكم وتفاصيلكم الهامشية ودعواتكم التى لم ترتق لسماء النافذين والأباطرة؟ الآن يمكن إشعال العرض وإطعام نار الفساد الحبيسة فى ضلوع المركزيين وأبناء المتن. كان هذا الحادث إيذانًا بتحوّلات شتّى على أصعدة الحياة السياسية والثقافية المصرية، وإلى جانب حادث غرق العبارة المصرية فى مياه البحر الأحمر بعد أقل من خمسة أشهر من الحريق، كانت أصابع الاتهام الحادة والواضحة تشير إلى فساد عميق تمدّد حتى سدّ رئتى الوطن، وإلى شيخوخة عظيمة الوطء والتصلُّب تضرب فى عروق النظام السياسى، ليُدشّن مبارك أول ثأر حقيقى بينه وبين شعب يحترم الحياة ويُقدّس الأرواح، شخصيًّا كان الحريق بداية ثأرى مع مبارك ونظامه، فخمسون شهيدًا وثمانية عشر مصابًا- لى فيهم بالصداقة والائتلاف الإنسانى - 25 شهيدًا و4 مصابين، وكلهم منّى ولى بالفن والإبداع والهمّ المشترك، يكفون بالتأكيد لأن يخرج الممثل الصامت عن صمته، وأن تلعن خشبة المسرح طوابير الأقدام الثقيلة التى تزحم الفضاء على المبدعين وتهين قداسة القاعة والنص والآدميين المنقوعين فى علقم التجربة والمنذورين ل«عَيش» الثقافة الجماهيرية وملحها. لظروف خاصة لم أذهب إلى العرض كما اعتدنا- نحن الإقليميين- فى مؤازرة ذوينا ومسرحنا، ولكن كثيرين من الأحبة والخُلصاء ذهبوا، ذهبوا إلى العرض وذهبوا إلى ما فوق الحياة، آب الهامشيون إلى المتن فيما فوق البصر والبصيرة، عادوا إلى مسرحهم فى علّيين مضيئين ونورانيين: صالح سعد، نزار سمك، حازم شحاتة، محسن مصيلحى، بهائى الميرغنى، مدحت أبوبكر، صلاح حامد، حسنى أبوجويلة، حسن أبوالنصر، علاء المصرى و40 شابًا وفتاة من النجباء والودعاء الطيّبين، انطفأت أضواء المسرح وانكسرت أرواحنا، وبعد تسع سنوات نقف أمام مسارح مضيئة، ولكنها إضاءة باهتة، تضبّبها أرواح شهداء أبى الفنون التى تحوم حول ملاعبها ومنابت أفئدتها، تهجو الفساد والمفسدين وتطلب القصاص.