وددت أن يكون أول مقالاتى فى 2010 عن العام الجديد، أهنئكم وأتأمل معكم العام الفائت وأرسم معكم أيضاً أحلاماً للعام القادم، ولكننى غرقت حتى أذناى ككل الأمهات والآباء فى أزمة المصل، وتحمل مسئولية التطعيم من عدمه، انشغلت بحثياً فى سؤال الأطباء والاستقصاء ذات اليمين وذات اليسار، وانشغلت فكرياً فلم أقوى على الكتابة فى شىء غيره والتفكير فى هذا "الغُلب" الذى أصبحنا نعيشه، وكأن الأسرة المصرية بحاجة إلى المزيد من الهموم والأثقال، وكأنه لا يكفيها أزماتها الاقتصادية بانعكاساتها. فعندما جاءتنا عاصفة المصل الجاثمة تماماً مثلما جثم خطر الإصابة بالأنفلونزا، شكت لى إحدى صديقاتى من اختلافها مع زوجها ورغبتها فى الانفصال، لأنه يريد تطعيم الأولاد وهى لا تريد خوفاً عليهم من الآثار الجانبية التى تسمع عنها، بل واتهمت الزوج بأنه يريد أن يتخلص من الأولاد حتى يستريح ويخلو له الجو ويتزوج من غيرها، فهو فى الأساس لا يهتم بهم، ولا يعرف عنهم شيئاً، ودائم التواجد خارج المنزل، والتكشير وإثارة المشاكل كلما جلس بالبيت! الأمهات والآباء معذورون.. الأمهات والآباء يحتاجون إلى محاكم للفصل فى هذه القضية الخطيرة، ولعلك عزيزى القارئ تتخيل معى مشهد أب وأم أحدهما عارض تطعيم الأولاد والآخر وافق، فلو تم إمضاء رأى الموافق فقد أصبح مسئولاً أمام الطرف الآخر عن حدوث أى أعراض جانبية سيئة لا قدر الله لهم ولو تم إمضاء رأى من رفض التطعيم، فهو مسئول أمام الطرف الآخر عن إصابة الأولاد بالمرض بسبب ضعف المناعة وعدم تعاطى المصل، هذا عن الآباء والأمهات فى الأسر العادية ونحن نفتقد فى الأساس إلى آليات الحوار الأسرى للأسف فى كثير من الأسر بشأن الأمور العادية، فما بالك بهذه القرارات المصيرية، وما بالك بأمثالهم من المنفصلين، واحتمالية الاختلاف وتراشق الاتهامات وتباين القرارات سيكون الأكثر مأساوية، فالفرصة ستكون سانحة للقول "إنت السبب"، وحتى الاتفاق على التطعيم أو عدمه غداً هو الآخر مشكلة، فما العمل إذا أكل الندم الوالدين المتفقين فى أى من القرارين بحسب النتائج، قائلاً "يا ريتنى ما وافقتك"! فالحقيقة التى لا يمكن التغافل عنها مع احترامى لتطمينات الأطباء، هى أن شعار "طعموا ولادكوا وريحوا بالكوا" لم تعد مضمونة الآن وليس لها موقعاً من الإعراب. "ليس لها من دون كاشفة"، هكذا قال لى أحدهم، وهكذا تعودنا فى كل المآسى والمصائب، وأنا لا أنكر أن الله وحده هو القادر على كشف البلاء، ولكننى أؤمن أيضاً أن هذا لا يتعارض مع العمل والسعى فى اتجاه كشف البلاء وليس زيادته، أو الجهل بمقاومته، فما يمر به المجتمع الآن ليس سهلاً ولا هيناً، فما أصعب أن تتخذ قراراً بشأن المجهول تجاه أعز الناس، وأغلى ما وهبك الله، فهؤلاء كنا نحلم بأظفارهم، وليس لديه استعداد من حلم بالأظفار فوهبه الله كيانات أن يفرط فيها هكذا. لا أدرى لماذا جاءتنى وسط الانشغال فى التفكير فى حسم أمر المصل هذه الخاطرة، فقد كنت أعتقد أن الصغار فقط هم من يحتاجون حضن والديهم لكى يشعرون بالحب، والحنان، والأمان، والدفء، فينشأوا أسوياء، ولكن الحقيقة الأعمق التى نكتشفها نحن الأمهات والآباء، خاصة فى المحن، أننا نحن الأحوج فى كثير من الأحيان إلى هذا الحضن، ربما لأنه الحضن الوحيد البرئ فى هذه الدنيا الذى يمكن أن يضمك، أو لأنه الحضن الأكثر أماناً، وبركةً، فكما أن هناك آباء وأمهات يعقون أولادهم بالإهمال والعنف والخشونة، وأنهم يجدون ذلك بالمثل عندما يكبرون، فلا يجدون سوى عقوق بالمقابل من الأبناء، فهناك أيضا آباء وأمهات يغزلون البر غزلاً فى أبنائهم بعطاءاتهم على تنوعاتها.. فماذا يفعل من يبغى الحفاظ على حضنه البرئ؟ يعطيه المصل أم لا؟! يمكنك أن تتعود على أن تحول المحن التى تقابلك فى حياتك إلى منح، إلا هذه المحنة.. وأن تتحمل أن تفقد أحضاناً مزورة كثيرة، ولكن .. "كله كوم وحضن الولاد كوم تانى"، فلا تحرمونا من الولاد، وحضن الولاد. لقد أسفت كثيراً أن يبدأ العام الجديد بصور مؤلمة رصدتها كاميرات زملائنا المصورين الصحفيين لبكاء الأطفال ورعبهم وألمهم وهم يتعاطون المصل، وأحسبها- أى هذه الصور- إن عافنا الله من الكوارث والمصائب حتى نهاية العام ستكون صورة العام "المؤلمة"، صورة الولاد "السمر" والذين ندعو الله أن يغدوا "شداد".