كنا نظن حتى وقت قريب أن تقسيمات الكاتب النوعية تنحصر بين الشاعر والروائى والقاص وربما الفيلسوف والمؤرخ أيضاً إلى أن تقرأ هذا الكتاب، فتكتشف أن الكاتب يمكن أن يكون مهندساً. ناهد صلاح فى كتابها "الحتة الناقصة.. حكايات افتراضية" مشغولة بالهندسة الفراغية لهذا الفضاء الكبير المسمى بالحياة، حتى ولو كان فراغاً أو فضاءً الكترونياً وكأى مهندس شاطر يملك أدواته ترسم ناهد صلاح دائرة ودورة كاملة للحياة وتقف فى قطر تلك الدائرة على مسافة متساوية من كل الأشياء إلا الحب حيث تخونها تلك المسافة الوهمية المحايدة من الحياة ليخرج الحب خارج هذه الدائرة عبر خط مستقيم مشدود حتى آخره لمسافة السكة بين قلبين. إن كنت تظن أن هذا كتاب فى الحب فقط فلا تضيع وقتك، وإن كنت تظن أن هذا كتاب فى الأدب فقط فلا تضيع وقتك، وإن كنت تظن أن هذا كتاب فى الهندسة فقط فلا تضيع وقتك، هذا كتاب يهندس الحياة والحب والأدب معاً، لذلك لن تضيع وقتك حين تقرأه، لأنك حالما تفرغ من قراءته سيهبك كل أعراض الهندسة التحليلية، بمعنى ألا يفوتك شىء فيما بعد مر أمام عينيك آلاف المرات وتسعى لتحليل أبجدية وجوده مثل الكاتبة ناهد صلاح التى أعادت لأنوفنا روائح زهر البرتقال والليمون فى قرانا، وأعادت طعم الحب للحياة، ليس فقط الحياة التى نحياها بشخوصنا، ولكن حتى عبر الحياة الافتراضية التى نحياها بأرواحنا عبر علاقة حقيقية مع رجل تهندسها ناهد عبر فضاء إليكترونى فى حياة موازية فى كون آخر اسمه Facebook. الكتاب مزيج مدهش من الأزمنة والأمكنة وقصص الحب من آلاف السنين وحتى قصة حب متطورة عبر "الشات"، كل ذلك فى 7 فصول فقط هى محتوى هذا الكتاب "المتغربل" بشكل يذهلك ويجعلك تتساءل: كيف طوت صاحبته كل تلك القصص والأزمنة والأمكنة فى كتاب؟!، فأجيبك: إنها الهندسة يا عزيزى. ولا تستغرب هذه الجملة التى تبدو مترجمة فبين الكتاب ما يشبه ذلك، حكاية قصة حب "زبيدة ومينو".. زبيدة المصرية والجنرال الفرنسى (الحكاية الخامسة فى الكتاب) الذى جاء ليحتل مصر فاحتل قلب زبيدة، تسكت الحكاية هنا وهناك فى التراث مما حدث بعد أن رحل الفرنسيون هل اكتملت قصة الحب بين الجنرال الفرنسى والفلاحة المصرية.. هذا ما لا نعرفه وتبقى الحتة الناقصة. كما سكت رب الكون والحكايات عن إكمال قصة يوسف وزليخة فى القرآن (الحكاية السادسة فى الكتاب) الذى وصف القصة فى مفتتح سورة يوسف "نحن نقص عليك أحسن القصص"، لندرك أن أجمل القصص هى دائماً تلك القصص غير المكتملة التى بها "الحتة الناقصة" تزيد من الشغف، لكن كتب السير والأعلام والنبلاء أكملت الحكاية بزواج يوسف وزليخة وإنجاب ما يزيد عن عشرة من الأبناء. لكن ناهد صلاح تعتمد الدليل الربانى أو كتالوج الخالق الذى يعرف طبائع المخلوقين بشغفهم ب"الحتة الناقصة" فى الحكاية فتسكت عما لا يلزم كما سكتت شهر زاد عن الكلام المباح (الحكاية السابعة) فيجن جنون شهريار الذى يسعى إلى اكتمال "الحتة الناقصة" فى الحكاية. إن كنت تظن بعد هذه الحكايات التراثية أن الكتاب عن قصص حب كلاسيكية قديمة فأنت مخطئ تماماً، فالحكاية ذات الحضور الطاغ فى هذا الكتاب تنسج أطرافها الحريرية عبر الشبكة العنكبوتية فى قصة حب افتراضية تتخذ من "الإنبوكس" بيتاً لها، وإن أوهن البيوت لبيت الشبكة العنكبوتية، كما فى ظن البعض، لكن تخالف الكاتبة هذا الظن وتنشئ أقوى قصة حب بين امرأة ورجل عبر فيس بوك، حيث يستمرئ الاثنان "التشات" و"الرغى" والحكايات والحب لبضعة شهور دون أن يتقابلا. قصة الحب التى تنمو عبر محادثات فيس بوك بين البطلين تنمو وتتشابك وتتكعبل أحياناً وخاصة مع إصرار الطرفين ألا يتقابلا إلا بعد أن يكون الحب قد تمكن منهما. إن محاولة تأسيس ما هو واقعى وحقيقى على ما هو افتراضى وخيالى يزيد الشغف ويخلق حالة من التشويق تشبه التشويق السينمائى، ولما لا والحياة عبارة عن فيلم سينمائى طويل. ورغم أن تجربة الحب ذاتية جداً وملتصقة بجلد صاحبتها إلا أنها تجيد الانتقال من الخاص إلى العام فى سلاسة تشعرك معها ببساطة نظرية ووحدة الوجود، فهى ترصد ما يقرب من عام فى تاريخ التجربة المصرية إبان حكم الإخوان، ولا تنقصها هذه السلاسة فى الانتقال عبر فصول الكتاب السبعة (وكأن الفصول السبعة تماثل أيام الأسبوع كما هو حال التشات اليومى بينها وبين حبيبها) عن الأم والجدة والصديقة والعانس، معتبرة كل واحدة منهن أسطورة حقيقية تمشى على الأرض وليست مجرد حكاية افتراضية كما جاء فى الإهداء الدال جداً للكتاب. الجهد المبذول فى كتاب "الحتة الناقصة" لناهد صلاح هو ليس مجرد محاولة لإكمال الحتة الناقصة بقدر ماهو جهد مدروس لهندسة الدائرة التى نعيش وسطها المسماة الحياة أو الحياة الحلوة والحلوة أوى فى السيما "السيما هى الجنسية" كما كانت تقولها الأم دائماً، هذا الكتاب يجب أن تقرأه لتدخل الجنة أو تلك الجنة.