نقلا عن العدد اليومى : للقاهرة فى قلب كل مصرى مكانة مرموقة ولها فى قلوب العرب والأجانب ركن بهى، فهى مدينة تمتد جذورها فى التاريخ إلى 1000 عام، إذ مر عليها الغزاة من كل صنف ولون، منهم من بنى وعمر، ومنهم من خرب ودمر، لكنها بقيت صامدة بشوارعها وأحيائها وميادينها التى تتسع وتزداد باختلاف العصور. تعالَ معى أيها القارئ نلقى نظرة على أبرز معالم القاهرة، سأتحدث معك اليوم عن شارع كلوت بك، والذى يعد أحد أهم شوارع المحروسة. فى عام 1872 ازدهرت الحياة فى مصر، وجرى التطور فى شوارعها مجرى الدم فى العروق، وأصبحت محطة السكة الحديد مكاناً حيوياً فى «القاهرة الخديوية»، فكانت مهبطاً لمحبى الفن والثقافة والأدب من مختلف البلدان، وذلك لزيارة «شارع محمد على»، حيث الفرق الموسيقية والطرب والرقص الشرقى. فكر «على باشا مبارك» الوزير المفوض من الخديو إسماعيل آنذاك فى إنشاء شارع يربط بين محطة السكة الحديد وشارع محمد على، وبعد مضى عام تم إنشاؤه وأطلق عليه شارع «كلوت بك»، امتناناً بالطبيب الفرنسى الذى أنشأ أول كلية طب بمصر بجوار المستشفى العسكرى ب«أبو زعبل» عام 1827، ثم نقلت فى 1837 إلى قصر أحمد العينى حتى ألحق بها مدرسة خاصة للصيدلة ثم مدرسة للولادة. توفى «كلوت بك» فى فرنسا سنة 1868، وقد أصبح الشارع الذى أطلق عليه اسمه محوراً مهماً للمرور، مُد فيه خط الترام وأقيمت البيوت على جانبيه بطراز بديع وافتتحت أسفلها الدكاكين، حيث أخذ اتجاهاً استراتيجياً يبدأ من ميدان رمسيس وينتهى عند ميدان العتبة. اللافت للانتباه أنه حين وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798 وضع نابليون بونابرت جنوده فى منطقة الأزبكية، وقتها خاف نابليون على جنوده وعلمائه من الانحرافات الجنسية، وانتشار الأمراض المصاحبة، ففكر فى تقديم الترخيص لمهنة «البغاء»، وبدأت إخراج التصريحات اللازمة لمزاولة المهنة. أما المثير للدهشة فإنه فى مطلع القرن العشرين سمى شارع كلوت بك بشارع «البغاء»، فكانت بيوت البغاء محددة، ومواعيدها معروفة فى الفتح والإغلاق، الأمر الذى أدى إلى إنشاء مستشفى خاص ل«العاهرات» بمنطقة السيدة زينب، وهو مستشفى «الحوض المرصود حالياً»، خوفاً على الجنود الفرنسيين من الإصابة بالأمراض الجنسية، وظل وضع الشارع على هذه الحال حتى عام 1945، عندما أصدرت الحكومة أمراً يجرّم ممارسة البغاء! من طرائف شارع البغاء، أنه بعد الحرب العالمية كان عدد الجنود الإنجليز فى مصر كبيراً ويحتاجون للترفيه، لكن العاهرات المصريات كان لديهن موقف مشرف فى تاريخهن، ورفضن ممارسة الجنس مع جنود الاحتلال بدافع وطنى. هذا الأمر «دفع الإنجليز إلى استيراد عاهرات أجنبيات إلى مصر من شتى الجنسيات»، الأمر الذى أثار المصريين دهشة وسخرية فأطلقوا عليه شارع «الدعارة المستوردة»! العجيب أن الشارع شيد له باب خاص مقفول عليه كنوع من الطبقية، لأنه كان مخصصاً للأجانب وكبار رجال البلد فقط، واللوكاندات وقتها كانت وكراً لممارسة الدعارة، وانتشرت المصطلحات الخاصة بتدرجهم الوظيفى «بدرونة، عايقة، برمجى، سحاب، قنطورة»، وهى وظائف فى عالم البغاء بداية من القواد، مروراً ب«البدرونة أو العايقة»، المسؤولة عن تأجير العاهرات ومراقبتهن، و«البرمجى» بلطجى وهو المسؤول عن العاهرات، وتصرف عليه مقابل حمايتها. أما «السحَّاب» فأقلهم قيمة ووظيفته اصطياد الفتيات من الشوارع وتصديرهن للبيوت، أما العاهرة أو «القنطورة» فكانت تستغل أسوأ استغلال دون مقابل. هكذا كانت حكاية شارع كلوت بك بمرارته وحلاوته، حتى تغيرت حالة الشارع عندما صدر قرار منع الدعارة، وبعدها حدث حريق القاهرة فى يناير 1952، ليقضى على كل أماكن اللهو فى هذا الشارع التجارى المهم، ومازال محتفظاً باسمه التاريخى كلوت بك!