سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فاروق جويدة يكتب: هذا ما قرأت فى حوار السيسى.. المشير يراهن على استدعاء رصيد الشخصية المصرية ممثلا النموذج والقدوة.. استمتعت بوضوح كلامه مع لميس الحديدى وإبراهيم عيسى.. وبدا حاسما دون مساومة أو مراوغة
يراهن المشير عبد الفتاح السيسى المرشح الرئاسى على استدعاء رصيد الشخصية المصرية القديمة فى عصورها الذهبية حين كانت تمثل النموذج والقدوة فى السلوك والأخلاق والعمل والتدين الصحيح. إن الشواهد كثيرة، ابتداء بصورة الحياة فى المحروسة بشرا وعملا وإنتاجا وانتهاء بالنماذج الفريدة التى كانت يوما من أهم جسور التواصل بيننا وبين أشقائنا فى الدول العربية، لا أنكر أننى استمتعت كثيرا بالحوار الذى أجراه بعمق ووضوح إبراهيم عيسى ولميس الحديدى مع المشير السيسى، بدا السيسى فى أفضل حالاته رغم صعوبة المواجهة فى أول تجاربه الحوارية أمام المواطن المصرى وأمام الرأى العام الذى سيذهب بعد أيام ليدلى بصوته، كان السيسى هادئا فى معظم الأحيان منفعلا تجاه بعض الأسئلة حاسما فى مواقف لا تحتمل المساومة أو المراوغة، كان السيسى على درجة عالية من الثقة بالنفس والقدرة على صياغة أفكاره أو الهروب الذكى من أشياء قد يرى أن الإجابة عنها ليس مجالها الآن، أعتقد أن السيسى قد نجح فى أول اختبار أمام الناس وإن كنت أعتقد أن هناك فصيلا من المنظرين لن ترضيه كثيرا بعض الإجابات، لأنها تحتاج إلى المزيد من الوضوح والصراحة. لابد أن أعترف بأن هناك بعض الرؤى والأفكار التى وجدت صدى فى نفسى وهى الثلاثية التى توقف عندها فى الحلقة الأولى وأثارت حولها تساؤلات كثيرة. كان السيسى حريصا أن يؤكد خوفه من الله فى أكثر من مكان، نحن جميعا نخاف الله سبحانه وتعالى ولكن تأكيد السيسى يعنى أنه لا يواجه دينا ولا يرفض إيمانا وأنه إنسان مصرى مسلم يحترم جميع الأديان، كان حريصا أن يتوقف أكثر من مرة على الجانب الأخلاقى فى سلوكيات الناس وليس معنى ذلك أنه سيحمل العصا لتأديب الناس، ولكنه سيكون حريصا أن يتعامل بمنطق القيم والأخلاق وسيكون حريصا أن يعامل الآخرين بنفس الأسلوب، كما أنه يضع الوطن فوق كل الحسابات والأفكار والرؤى ولأن كل جهد ينبغى أن يصب فى النهاية فى خدمة الوطن وأن كل فكر يتعارض مع مصالح هذا الوطن لا مكان له ولهذا لا مستقبل لفكر الإخوان فى دولة مصر الجديدة، لأن هذا الفكر يتعارض تماما مع طبيعة وتكوين الشعب المصرى ولهذا أغلق المصريون صفحة الإخوان المسلمين بعد أن اكتشفوا حقيقتهم خلال عام من الفشل فى إدارة شئون أكبر دولة عربية. كان من الواضح فى حديث السيسى أنه رجل متدين بفهمه الصحيح للإسلام وليس بفهم الآخرين الذين أساءوا للإسلام وأن الحاكم حين يكون مسئولا عن شعب فإن فى هذا الشعب نوعيات من البشر تختلف فى السلوك والأديان والثوابت وأنه مسئول عن الجميع، وكان واضحا أنه يحتكم دائما لمبادئ الأخلاق فى آرائه وأحكامه وسلوكياته وكل ما يريده من الآخرين أن يدركوا أن البعد الأخلاقى يمثل ضرورة فى حياة البشر حكاما ومحكومين، وحين تحدث عن محاولات الاغتيال والخوف من المؤامرات كان قدريا فى رده أن إرادة الله تسبق كل شىء وأن حياة الإنسان فى يد خالقه، إن الخوف من الله هو التدين الصحيح المتسامح، والأخلاق مقياس السلوك الإنسانى فى دنيا البشر، والوطن هو الحلم والغاية، ثلاثية أخلاقية تعكس فكر ورؤى إنسان مصرى بسيط نشأ فى أعرق وأقدم أحياء القاهرة وهى الجمالية حيث توحدت الأديان فى المعبد والمسجد والكنيسة، وتجسدت الأخلاق فى سلوكيات الإنسان المصرى البسيط، وكانت مصر الوطن والحلم والقضية. لا شك أن هذه الثلاثية الذكية التى دار حولها حديث المشير السيسى وجدت صدى عند المواطن المصرى البسيط العادى، إن السيسى الرجل الذى أطاح بحكم الإخوان أمام إرادة شعبية جارفة، إنسان متدين يخاف الله ويعمل له ألف حساب وهو إنسان مسلم شديد الاعتزاز بدينه، هذه الصورة تعنى الكثير أمام فئات كثيرة من المصريين خاصة أننا أمام جماعات دينية احتكرت الحديث باسم الدين وجعلت نفسها موطنا للإيمان الحقيقى وصورت للناس أن من خرج عليها كافر وعدو لدينه. وحين حاول السيسى أن يسترجع صورة الأخلاق أمام الشارع المصرى كان حاسما وهو يؤكد دور الإعلام والتعليم والأسرة ومعهما الدولة فى ترشيد أخلاق الناس، وقدم بعض النماذج التى تحدث فى الشارع والتى ينبغى أن نرفضها جميعا وأن يكون للدولة دور فى ذلك، وهو ما تتعرض له المرأة المصرية من سوء الأخلاق والسلوك والتحرش الذى أصبح من أسوأ الظواهر فى حياة المصريين. كان السيسى أيضا حريصا أن يسترد المصريون مشاعرهم الوطنية القديمة ابتداء بالكلمات فى حب الوطن وانتهاء بالعمل والإنتاج، خاصة أننا فى أحيان كثيرة نسينا كلمة الوطن أمام نزعات فردية اتسمت بالجشع وحب الذات وعدم تقدير المسئولية تجاه مجتمع ننتمى إليه. فى تقديرى، إن التمهيد كان ذكيا للدخول إلى البيت المصرى من أوسع أبوابه وحين يجتمع الله والوطن والأخلاق فى بطاقة دخول لقلوب الناس فإن الأبواب مفتوحة والطريق ممهد. فى الحديث عن هموم الوطن كانت لغة الأرقام هى أخطر ما قدم السيسى عن حقيقة الواقع المصرى.. وفى دفعة قليلة من الحقائق قال إن ديون مصر اقتربت من 1.7 تريليون جنيه وإن خدمة الدين أكثر من 200 مليار جنيه وإن العجز فى الميزانية يقترب من 350 مليار جنيه وإن 30% من المصريين فى منطقة العوز وليس الفقر وإن البطالة لغم يهدد أمن واستقرار حياة المصريين، وإننا سنظلم كل أجيالنا القادمة إذا تركنا لهم هذا الإرث الثقيل. طرح السيسى حلولا كثيرة حول إعادة توزيع الأراضى على المحافظات من خلال ظهير صحراوى لكل محافظة، وإن ذلك سوف يضيف إلى ثروة هذه المحافظات وسوف يفتح آفاقا لمشروعات جديدة وإنتاج جديد وإن خطة تطوير المحافظات تمتد إلى الشواطئ لتفتح مجالات عمل وإنتاج فى السياحة والتعدين والزراعة والإسكان. وحين تحدث عن أزمة الطاقة كانت دعوته الأولى إلى الترشيد لأن إنشاء مصادر جديدة للطاقة يحتاج وقتا ومالا وهو يراهن على موقف المصريين ودعمهم خلال فترة قصيرة.. وأكد على ضرورة التوسع فى الطاقة الشمسية.. وحول الطبقات الفقيرة، أكد أن الحكومة ستوفر السلع وتفتح أبوابا للمنافسة وهى لن تمنع القطاع الخاص، ولكنها ستدخل فى منافسة سعرية وإنتاجية تفرض عليه ترشيد خططه وسلوكياته. وحول مصادر التمويل قال السيسى إنه سيعتمد على ثلاثة مصادر أولها دعم المصريين فى الخارج ومساعدات الدول الشقيقة وفتح المجال أمام الاستثمارات الخارجية مع تشجيع القطاع الخاص المصرى.. وأشاد السيسى بموقف الدول العربية الشقيقة السعودية والإمارات والكويت، وقال إن مساعداتها لمصر تجاوزت 20 مليار دولار وإن هذه الدول تدرك أن استقرار مصر يمثل ضرورة حتمية للجميع، وقال إن أول زيارة له خارج مصر رئيسا ستكون إلى السعودية. فى كلمات عتاب قليلة كان الحديث إلى حماس مؤكدا أن القضية الفلسطينية تعيش فى وجدان كل مصرى، وطالب المصريين بألا يكون موقف حماس على حساب موقف تاريخى تجاه القضية الفلسطينية.. وقال إن المصريين تألموا كثيرا من موقف قطر وإن مصر تتعامل مع الشعوب وليس الأنظمة. لم يخل الحديث من العواطف الجياشة وكانت للأسرة مكانة خاصة فى حوار السيسى، وهو يتحدث عن أمه التى لم يسمعها يوما تذكر أحدا بكلمة سوء وتحدث عن زوجته وأبنائه مؤكدا أنه لن يقبل أن يستغل أحد من أسرته اسمه فى أى مجال وأنه بدأ فى اختيار فريق عمله ولن يكون الاختيار على أساس أهل الثقة أو أهل الخبرة ولكن الكفاءة وحدها هى المقياس وأنه لن يقبل أساليب الوساطة وانتهاك حقوق الناس وفرصهم. بقيت عندى عدة ملاحظات حول الحوار.. أولا: أننا أمام رجل جاء فى مهمة إنقاذ وهى بلغة العسكرية عملية فدائية لا تحتمل الفشل ولا تقبل غير النجاح وسوف يطلب من الشعب المصرى أن يكون سيفه ودرعه ومصدر حمايته فى هذه المهمة والدليل أنه قرر ألا يكون له حزب سياسى ولن ينتمى إلى حزب وأن حزبه هو ملايين المصريين. ثانيا: أن المهمة ثقيلة والعبء ضخم وهو يحتاج إلى إرادة شعب وليس قدرات حاكم مهما كان دوره وقدراته وأنه لايستطيع أن ينقذ الوطن وحده، ولهذا كان حديثه الواضح عن دور مؤسسات الدولة فى الإعلام والتعليم والإدارة والتخطيط والترشيد والمتابعة. ثالثا: لم يتحدث السيسى عن أنظمة الفساد السابقة أو الأموال الهاربة سواء فى عهد الوطنى أو الإخوان.. ولم يذكر شيئا عن القطاع العام وكيف يمكن إنقاذ ما بقى منه وكان متحفظا فى أحيان كثيرة فلم يذكر النخبة بخير أو شر، رغم أنه يعرف الكثير من رموزها ولم يتوقف عند رموز العمل السياسى وإن كان قد وضع الولاء الوطنى قبل الانتماء السياسى. رابعا: كان واضحا اعتزازه الشديد بنجاح القوات المسلحة كنموذج مصرى رفيع فى الإدارة والدور والنتائج وهو على حق فى ذلك أمام خرائب كثيرة دمرها الفساد فى مؤسسات الدولة وتمنى السيسى أن تكون مؤسسات الدولة على هذه الدرجة من الالتزام والمسئولية. خامسا: لا مكان للماضى فى حساباته للمستقبل وليس أمام المصريين وهو واحد منهم غير أن ينظروا للأمام.. إن ما كان قبل ثورة يناير لن يعود.. وما كان قبل ثورة 30 يونيو صفحة طواها الشعب المصرى وأنه لن يوجد حاكم يقرر مستقبل شعب دون إرادته وأن علينا جميعا أن نستعد لرحلة إنقاذ الوطن. هذا ما قرأت فى حوار السيسى.. ويبقى الشعر.. عودُوا إلى مصْر ماءُ النِّيل يكفينَا منذ ارتحلتمْ وحزنُ النهْر يُدْمينا أيْن النخيلُ التى كانتْ تظللَنا ويرْتمى غصْنُها شوقًا ويسقينَا؟ أين الطيورٌ التى كانتْ تعانقُنا وينتشى صوْتُها عشقَا وَيشجينا؟ أين الرُّبوعُ التى ضمَّتْ مواجعَنَا وأرقتْ عيْنها سُهْدًا لتحْمينَا؟ أين المياهُ التى كانتْ تسامرُنَا كالخمْر تسْرى فتُشْجينا أغانينَا؟ أينَ المواويلُ؟.. كم كانتْ تشاطرُنَا حُزنَ الليالى وفى دفْءٍ تواسينَا أين الزمانُ الذى عشْناه أغنية فعانقَ الدهْرُ فى ودٍّ أمانينَا هلْ هانتِ الأرضُ أم هانتْ عزائمنَا أم أصبحَ الحلمُ أكفانًا تغطِّينَا جئنا لليلى.. وقلنا إنَّ فى يدهَا سرَّ الحيَاة فدسَّتْ سمَّها فينَا فى حضْن ليلى رأينا المْوت يسكنُنَا ما أتعسَ العُمْرَ.. كيف الموتُ يُحْيينا كلُّ الجراح التى أدمتْ جوانحَنَا وَمزقتْ شمْلنا كانتْ بأيدينَا عودوا إلى مصْر فالطوفانُ يتبعكُمْ وَصرخة الغدْر نارٌ فى مآقينَا منذ اتجهْنا إلى الدُّولار نعبُدُهُ ضاقتْ بنا الأرضُ واسودتْ ليالينَا لن ينبتَ النفط أشجارًا تظللنَا ولن تصيرَ حقولُ القار.. ياسْمينَا عودوا إلى مصْرَ فالدولارُ ضيَّعنَا إن شاء يُضحكُنا.. إن شاءَ يبكينَا فى رحلةِ العمْر بعضُ النَّار يحْرقنا وبعضُهَا فى ظلام العُمْر يهْدينَا يومًا بنيتمْ من الأمجَاد مُعجزة فكيفَ صارَ الزَّمانُ الخصْبُ..عنينا؟ فى موْكبِ المجْد ماضينا يطاردنَا مهْما نجافيهِ يأبى أن يجَافينَا ركبُ الليالى مَضَى منا بلا عَدَدِ لم يبق منه سوى وهم يمنينَا عارٌ علينا إذا كانتْ سواعدُنَا قد مسَّها اليأسُ فلنقطعْ أيادينَا يا عاشقَ الأرْض كيفَ النيل تهجُرهُ؟ لا شىءَ والله غيرُ النيل يغنينَا أعطاكَ عُمْرا جميلا عشتَ تذكرهُ حتى أتى النفط بالدُّولار يغْرينَا عودوا إلى مصْرَ..غوصُوا فى شواطئهَا فالنيلُ أولى بنا نُعطيه.. يُعْطينَا فكسْرة الخُبْز بالإخلاص تشبعُنا وَقطْرة الماءِ بالإيمَان ترْوينَا عُودُوا إلى النِّيل عُودُوا كىْ نطهِّرَهُ إنْ نقتسِمْ خُبزهُ بالعدْل.. يكْفينَا عُودوا إلى مِصْرَ صَدْرُ الأمِّ يعرفُنا مَهْمَا هَجَرناهٌ.. فى شوْق يلاقينَا "قصيدة عودوا إلى مصر سنة 1997" تم النشر بعد استئذان الكاتب الكبير فاروق جويدة.