إن الباحث فى المنطلقات النفسية والعقلية للمجتمعات العربية عبر العصور يدرك من خلال مجريات الأحداث متى تكون العقلية والنفسية العربية ضحلة ومتخلفة ومتدنية ومتى تكون منطلقة ومبدعة ورائدة، فلقد كشفت لنا الأحداث الأخيرة لمباراة فى كرة القدم بين شعبين عربيين مدى تضاؤل الفكر العربى وتدهوره فى التعاطى مع تلك الأحداث، فاختفى صوت العقل، وعلا صوت الحمق والجهل، وارتفع صخب وضجيج الغوغاء، فأصبح فارس الميدان، حتى بلغ الحد إلى المطالبة بقطع العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الشعبين الشقيقين اللذين تجرى فى عروقهما دماء العروبة والإسلام، فى وقت تعلو فيه المطالبة بتطبيع العلاقات مع دولة الكيان الصهيونى. يذكرنى ذلك بتلك الحروب التى حدثت فى عصر من عصور التخلف والتدهور العربى فى القرن الخامس الميلادى والتى عرفت فى التاريخ بحربى البسوس وداحس والغبراء والتى امتدت كل واحدة منهما لمدة أربعين سنة، والتى إن دلت فإنما تدل على تمكن هذه النعرات القبيحة فى النفوس والتى يوقدها الشعور بالثأر، هذا الشعور الذى يجعل الأخ يوجه سهامه نحو صدر أخيه باغتباط وبهجة يتوهمه نصرا مؤزرا والواقع خلاف ما يتوهم، فإنه حين يفعل ذلك فإنما يفتت قواه هو ويبدد طاقاته ويستنزف موارده ومقدراته من الأرواح والخيرات التى هو فى أمس الحاجة إليها لمواجهة عدوه الذى يتربص به من كل حدب وصوب ويحدق إليه من كل ناحية طمعا فى خيره وثرواته وأرضه وأسلابه. فأما حرب داحس والغبراء فكانت بين قبيلتى عبس وذبيان بسبب رهان على مائة من الإبل فى سباق للخيل بين الحصان "داحس" وكان ملكا "لقيس بن زهير" من بنى عبس والفرس "الغبراء" وكانت ملكا "لحمل بن بدر" من قبيلة ذبيان، حيث أوعز حمل ابن بدر لنفر من أتباعه ان يختبئوا فى الشعاب قائلا لهم "إذا وجدتم داحس متقدما على الغبراء فى السباق فردوا وجهه كى تسبقه الغبراء"، فلما فعلوا تقدمت الغبراء، وحينما تكشف الأمر بعد ذلك اشتعلت الحرب بين عبس وذبيان. أما حرب البسوس فكانت بين قبيلتى بكر وتغلب، حيث استمرت تلك الحرب لمدة أربعين سنة بسبب مقتل ناقة لامرأة اسمها "البسوس بنت منقذ"، أمر بقتلها "كليب بن ربيعة التغلبى"، فقام "جساس بن مرة" ابن أخت البسوس من قبيلة بكر بقتل كليب، فكانت الحرب التى انتهت بانتصار تغلب على بكر. عندما نخضع هذه الحوادث للنقد والتحليل نجد أن هناك تشابها بينها، يتمثل فى حالة الفراغ والخواء العقلى والنفسى الذى تعيشه المجتمعات العربية فى عهود التأخر والتخلف، والذى تظهر معالمه عندما يتنافس قيس وبدر على أى الفرسين أسرع وأسبق، داحس أم الغبراء وينصبون لذلك سباقا ويعقدون على ذلك رهانا، حتى يصل الأمر إلى حد الاحتيال والخيانة فى كسب رهان كاذب، أما فى حالة البسوس "فكليب" يبحث عن صيت زائف وتصريح من زوجته تشهد له فيه بالسؤدد والريادة على العرب ولكن الزوجة تمنع زوجها من هذا التصريح وتنسب السيادة والريادة إلى أخويها "جساس وهمام ابنى مرة" فتأكل الغيرة قلب "كليب" فيقتل ناقة خالتهم "البسوس" نكاية فيهما على الرغم من كونهما أصهاره وأبناء عمومته فيبدوان أمام العرب أقل فى الشرف والسؤدد من "كليب". وكذا الحال فى حالة الفراغ التى نعيشها فلقد تم تفريغ المجتمعات العربية من كل ما هو نافع وجاد وتعبئتها بكل ما هو تافه وصغير، فلم يعد أمام الناس مجال يمكنهم تحقيق الريادة فيه أو الحديث والحوار فيه بحرية، كما هو الحال فى كرة القدم، فراح كل فريق يبحث عن الريادة والشرف فى مباراة لكرة القدم، مدعيا أنه الأفضل وأنه الأولى فى تمثيل العرب أو أفريقيا فى هذا المحفل الرياضى العالمى ألا وهو كأس العالم لكرة القدم، ونعجب ما الذى يجنيه الناس من ريادة وشرف فى لعبة كرة تظل طوال الوقت تضرب بالنعال وتداس بالنعال، وكان الأولى أن يكون هناك تنافس وتبارٍ محمودان فى اللحاق بركب الحضارة الحديثة من علم وتكنولوجيا وتطور وإبداع وبناء وعمران وخلافه. أما وجه التشابه الثانى فيتثمل فى مدى خطورة دور الإعلام فى تأجيج الصراع واشتداد لهيبه بين الإخوة والأشقاء، ففى حربى البسوس وداحس والغبراء لعب الشعر دورا كبيرا فى استمرار الصراع وتطوره بين الأصهار وأبناء العمومة، وكذا لعب الإعلام دورا هائلا فى حالة الاحتقان لدى مشجعى كرة القدم فى البلدين الشقيقين والتى استمرت قبل وأثناء وبعد المباراة حتى طال أثرها طوائف كثيرة من الشعبين العربيين حتى الأن، وهى صورة لم نجدها فى أحداث مع شعوب تبارز شعوب الامة العربية العداء كشعب الكيان الصهيونى، فى مواقف أكبر حدة وأعظم أثرا على أمتنا العربية. أما اللعب بأوراق الضغط الاقتصادية لتحصيل مكاسب سياسية فيبدو أنه وجه التشابه الثالث، فيستخدم الرهان الكبير فى حرب داحس والغبراء والذى يقدر بمائة ناقة كورقة من أوراق الضغط ليحقق كل فريق السيادة والريادة بين العرب، أما فى حالة البسوس فكليب يريد أن يبدو أنه الأقوى والأعلى فيضغط بأوراق الضغط الاقتصادية التى يملكها بمنع أهل زوجته من بنى مرة الكلأ والمرعى والماء مما يؤثر على ظروفهم الاقتصادية و يظهرهم فى حال الذلة والانكسار, وأما فى حالتنا الكروية وكما هو معلن أن هناك اختلافا فى وجهات النظر بين النظامين المصرى والجزائرى حول الملف الإيرانى والفلسطينى الأمر الذى يدفع كل فريق إلى استخدام أوراق الضغط التى يملكها للتأثير فى قرار الآخر ومنها الاستثمارات الاقتصادية فى كلا البلدين . ووجه رابع للتشابه يظهر فى تفشى الفساد وكيفية شغل الرأى العام عنه , فكليب يمثل فساد السلطة بالاستيلاء على المراعى ومواطن الماء وممارسة الظلم مع قومه، وبالمثل فى حالتنا الكروية فأن الحكومتين من حيث الفساد تحتلان مرتبة متقدمة على مستوى العالم حسب تصنيف المنظمات الدولية , ومن ثم ليس هناك انسب من هذه الاحداث لشغل الشعبين العربيين عن حالات الفساد والافساد التى تمارس فى حقيهما وايضا عن امور اخرى منها تهويد القدس وقضية الحريات وقضايا التوريث وغيرها كثير. إذن لابد من ان نتعلم من حربى البسوس وداحس والغبراء ونتلافى الأسباب المؤدية إلى أحداث مثلها وان نحكم صوت العقل , وان نصحح من أوضاعنا ونعيد الأمور إلى نصابها, وألا ننجر إلى دعاة الفتنة , وان نحذر من كيد اليهود ودسائسهم وننجو من حبائل الفرقة التى ينصبونها لنا , وان نصلح ذات البين ونصل الرحم ووشائج القربى وبخاصة فى هذه الايام التى تتوحد فيها الامة فى يوم عرفة ويوم عيد الاضحى مقبلين على ربنا.. لبيك اللهم لبيك ... لبيك لاشريك لك لبيك , مهللين بنداء العيد الله اكبر كبيرا والحمد لله كثير وسبحان الله بكرة واصيلا.. لا اله الا الله.