غادر حسن رحيل فلسطين عندما كان فى الثانية عشرة وهو يعيش منذ ستين عاما فى مخيم بؤس وشقاء فى لبنان، مثل عشرات الألوف غيره من لاجئى 1948 الذين يتضاءل عددهم وفسحة الأمل لديهم بمرور الزمن فيما تزداد "أجيال اللاجئين". ويقول حسن رحيل فى مخيم برج الشمالى (جنوب) من منزله الصغير الذى لا تتعدى مساحته السبعين مترا وقد ربى فيه عائلة من ثمانية أولاد، "المستقبل كله أسود بالنسبة إلينا". ويتكدس أكثر من 250 ألف لاجئ فلسطينى فى 12 مخيما فى لبنان حيث يكبر الأطفال فى منازل لا يدخلها أحيانا نور الشمس، وفى أزقة ضيقة تتداخل فيها مساكن متلاصقة مبنية عشوائيا، وتتشابك فيها أشرطة الكهرباء وسط روائح كريهة. عدد كبير منهم يتركون المدرسة باكرا، ويتسكعون من دون عمل هنا وهناك. فى مخيم برج الشمالى، ارتفع عدد اللاجئين خلال خمسة عقود من سبعة آلاف إلى عشرين ألفا على مساحة واحدة لا تتجاوز كيلو مترا مربعا واحدا. ويقول محمود الجمعة، رئيس "بيت أطفال الصمود" الذى يعنى بالأطفال الفلسطينيين، إن اللاجئين "مسجونون فى هذه المخيمات منذ ستين عاما"، مضيفا "نتيجة ذلك، باتوا لا يؤمنون بشىء". يوما بعد يوم، وفى ظل رفض إسرائيل القاطع البحث فى حق العودة وتعثر عملية السلام، يتضاءل من جيل إلى جيل الأمل برؤية أرض الوطن الواقعة على مرمى حجر من جنوب لبنان. العدد الأكبر من سكان المخيمات لا يملك حتى أى ذكرى عن فلسطين، ولا تتعدى نسبة الذين لا يزالوا يتذكرون النزوح العشرة فى المائة، بحسب المنظمات الأهلية العاملة على الأرض. ويقول حسن (70 عاما) "عندما كنت أتفرج على المعارك بين اليهود وشعبنا من سطح منزلنا فى وادى حولا (شمال إسرائيل)، لم أكن أدرك أننا نخسر وطنا". وأضاف "كنا نعتقد أننا سنعود خلال يومين، وانتهينا ببناء هذا المخيم فى لبنان"، ويستدرك قائلا "هذا المخيم هو وطني. فى أى مكان آخر، أشعر بالغربة". أما الشبان الفلسطينيون فقد تخلوا عن الأوهام منذ زمن. وتقول هبة إدريس (23 عاما) "فلسطين، إنها فكرة، مجرد فكرة". وتضيف هبة المجازة فى إدارة التكنولوجيا من الجامعة اللبنانية حيث تمكنت من تلقى دروسها العليا بمساعدة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، "ولدنا لاجئين وسنموت لاجئين". حتى الشهادة التى تحملها لا تسهل لها الطريق كون الفلسطينيين ممنوعين من العمل فى قطاعات مهنية فى لبنان. وتتابع "لا نملك شيئا. نعيش كل يوم بيومه، ولا يمكننا التخطيط للغد لأننا لا نرى نهاية النفق". وتتذكر هبة جدها الذى عاش حياته نادما على خروجه من قرية صفد فى منطقة الجليل. "لم يحمل السلاح. مثل كثيرين غيره، سمع بمجزرة دير ياسين فغادر ليحمى عائلته". وتضيف "كان يشعر بالذنب إزاء الوضع فى المخيمات ويردد .. كان من الأفضل لو متنا هناك، بكرامة". وتتذكر هبة كذلك خروجها للمرة الأولى من المخيم ورؤيتها البحر. "لم أكن أعرف أن هناك شيئا بهذا الجمال، ولا أن هناك عالما فى الخارج. كنت أعتقد أن المخيم هو كل ما فى الحياة". فى مخيم شاتيلا فى ضاحية بيروتالجنوبية، يمضى العديد من الشبان أوقاتهم بتدخين النرجيلة "من كثرة الإحباط"، كما تقول سمر قداح (33 عاما) فى دكانها الصغير داخل المخيم الذى تعتاش منه مع عائلتها. ويقول وليد طه الذى يعمل فى البناء وهو والد لستة أولاد، مشيرا إلى حفريات إلى جانب طريق تقوم بها الأونروا لإجراء بعض التمديدات، "أملك بالقرب من هنا مكانا صغيرا اجمع فيه عدة العمل. قريبا سأجهزه لابنى الأكبر ليقيم فيه بعد الزواج". ويضيف "لا اعرف أين سيقيم ابناى الآخران إذا قررا تأسيس عائلة". ولد وليد فى لبنان، لكن له إخوة من والده "فى فلسطين، واحدهم هو النائب فى الكنيست الإسرائيلى واصل طه". ويضيف معبرا عن غضبه من العرب، "سبعة ملايين يهودى يهتمون ب(الجندى الإسرائيلى جلعاد) شاليط، بينما 300 مليون عربى يزدرون مصير مئات الاف الفلسطينيين". ولم يشهد طه حياة البؤس فى المخيمات فحسب، بل عايش أيضا "حرب المخيمات" بين ميليشيا لبنانية والفصائل الفلسطينية والتى دمرت مخيم شاتيلا فى الثمانينيات والاجتياح الإسرائيلى ومجازر صبرا وشاتيلا. ويقول "أنا أعمل بجهد وبالكاد يكفينى ما أجنى لأطعم عائلتى"، مضيفا "نعيش من قلة الموت". ويجلس أبو احمد (85 عاما) أمام باب منزله المتواضع بمفرده. أولاده الاثنا عشر هاجروا إلى الخارج مع عائلاتهم، باستثناء واحد بقى فى لبنان. ويحتفظ أبو احمد بملف فيه حجة أرضه فى فلسطين وإيصالات بضرائب دفعها إلى "حكومة فلسطين" ومفاتيح منزل يحلم بالعودة إليه. ويقول وهو يدل على الأوراق المحفوظة بعناية "هذا كنزى". إنما رغم المعاناة، ترفض سمر قداح الاستسلام وتقول "ارفض معادلة: نحن ضحايا وبالتالى يجب أن نستسلم لليأس". وتضيف "لن أعود إلى فلسطين، إنما هذا لن يدفعنى إلى الموت أبدا".