يملك عمر الشريف سحرا خاصا، وتألقا يزداد بريقا كلما تقدم فى العمر، أبدا لم تقف سنوات عمره التى تخطت الثمانين، حائلا بينه وبين إبداعه، فيكفى أن يطل فى أى فيلم سينمائى حتى ولو لبضعة مشاهد قليلة، لنحبس أنفاسنا، ونقول إنه عمر الشريف، وهذا ما تأكد فى آخر دور قدمه فى السينما قبل اعتزاله الفن، عندما تجلى فى دور مولاى حسن بفيلم المخرجة المغربية ليلى المراكشى، "روك القصبة"، والذى عرض فى مهرجان دبى السينمائى بدورته العاشرة، وهو الفيلم الذى شارك فيه عدد كبير من نجوم السينما العربية، ومنهم الفلسطينية هيام عباس، واللبنانيتان، نادين لبكى، ولبنى الزبال، والمغربية راوية سالم، وهو الفيلم الذى قدمته ليلى بعد غياب 8 سنوات منذ فيلمها المثير للجدل، "ماروك". وفى "روك القصبة"، استطاعت ليلى من خلال حسها الشاعرى الكاشف لتناقضات المجتمع المغربى، أو لنقل العربى، والأزمات النسوية التى يبدو من كثرة تكرارها، أنه لا أمل فى إصلاحها، وتناولها البديع لدور السلطة الأبوية والدور الروحانى للأب الغائب الحاضر، أن تقنع عمر الشريف بالمشاركة فى العمل، وهو الدور الذى جسده الشريف بخفة ورشاقة يحسد عليها، وكأنه كان يعلم جيدا أن هذا العمل سيكون بمثابة الوداع الأخير لجمهوره الممتد فى أرجاء العالم، وبرهافة شديدة عزف الشريف جملته الأخيرة، رغم أن مشاهه فى الفيلم لم تتعد الستة مشاهد، وتتمثل فى ظهوره معلقا على الأحداث التى تدور فى منزله، كاستعدادات جنازته، أو سخريته من صراع أفراد الأسرة حول شخصه وعلاقته بحفيده الذى يحضر إليه الشريف للمرة الأولى، أو سخريته من مشهد الكلب الذى يبول على قبره بعد دفنه. الفيلم يبدأ بوفاة الأب مولانا حسن، أحد أشهر أغنياء طنجة، وهو الرجل الذى يحبه الكثيرون ويخافه الكثيرون أيضا، فالبعض يراه رحيما طيب القلب شديد الكرم، والبعض الآخر يرونه قاسى القلب ويعرف بالضبط أين ينفق أمواله، فالابنة الكبرى التى قرر لها والدها أن تشتغل معلمة، اتبعت قرار والدها دون أدنى معارضة، وجدت نفسها تشعل سيجارة ثم تطفئها بعد وفاته خوفا من أن تكون أعين الأب المتوفى تراقبها، والأم وجدت نفسها تتابع كل صغيرة وكبيرة كموائد الطعام المعدة للجنازة، خوفا من أن لا تكون فى المستوى الذى يرتضيه الزوج، وكأنه سيعود ليسجل عليها ملاحظاته، أما الابنة الصغرى التى هاجرت إلى الولاياتالمتحدة، وتزوجت وأنجبت وابتعدت عن سلطة الأب، وجدت نفسها تدخل إلى غرفته تلقائيا وتلقى عليه النظرة الأخيرة معاتبة إياه على سنوات البعد التى اضطرها إليها بسبب معارضته لزواجها بأمريكى، وأنه لم يكلف نفسه مرة واحدة للسفر إليها يوما ولو لرؤية حفيده والتعرف عليه، أما الثالثة فتزوجت من رجل ثرى فى نفس المستوى على أمل أن يكون الرجل ظلا لوالدها، ولا تشغلها سوى عمليات التجميل، أما الرابعة فانتحرت بعد أن أجبرها والدها على إجراء عملية إجهاض فى لندن، حيث كانت تحب وترغب فى الزواج من ابن ربة منزلهم، والذى تكتشف من خلال الأحداث أنه ابنه غير الشرعى، وأنه كان يعشق تلك السيدة، وكانت أم بناته تعلم بالقصة وقبلت أن تعيش معها فى صمت، ومن خلال حكى البنات نكتشف جوانب كثيرة فى شخصية الأب. فيلم ليلى يكشف الكثير من تلك العلاقات العائلية المعقدة التى تشبه الشجرة العملاقة فى حديقة قصر مولاى حسن، والتى ظهرت فى المشهد الافتتاحى لفيلم عمر الشريف، الذى بدا فى فيلم "روك القصبة" كمايسترو، أضفى بحضوره تناغم كبير فى فريق العمل، ورغم الملاحظات على الفيلم وتحديدا كم الإثقال الدرامى فى السيناريو، إلا أن أداء الشريف وتجليه الأخير يجعلك تغفر الكثير من سقطات السيناريو.