استشهاد 3 فلسطينيين على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على رفح    لحظة وصول بعثة الأهلي مطار قرطاج استعدادا للعودة إلى مصر (فيديو)    تشكيل الزمالك المتوقع ضد نهضة بركان في إياب نهائي الكونفيدرالية.. جوميز بالقوة الضاربة    رئيس «مصر العليا»: يجب مواجهة النمو المتزايد في الطلب على الطاقة الكهربائية    نشرة منتصف الليل| الحكومة تسعى لخفض التضخم.. وموعد إعلان نتيجة الصف الخامس الابتدائي    محافظ بني سويف: الرئيس السيسي حول المحافظة لمدينة صناعية كبيرة وطاقة نور    بعد الانخفاض الكبير في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد بالمصانع والأسواق    رضا حجازي: التعليم قضية أمن قومي وخط الدفاع الأول عن الوطن    حزب الله يستهدف عدة مواقع لجيش الاحتلال الإسرائيلي.. ماذا حدث؟    تعزيزات عسكرية مصرية تزامنا مع اجتياح الاحتلال لمدينة رفح    حماية المنافسة: تحديد التجار لأسعار ثابتة يرفع السلعة بنسبة تصل 50%    اسكواش - وأخيرا خضع اللقب.. نوران جوهر تتوج ببطولة العالم للسيدات    عماد النحاس: وسام أبو علي قدم مجهود متميز.. ولم نشعر بغياب علي معلول    محمود أبو الدهب: الأهلي حقق نتيجة جيدة أمام الترجي    باقي كام يوم على الإجازة؟.. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    الأرصاد الجوية تحذر من أعلى درجات حرارة تتعرض لها مصر (فيديو)    حقيقة تعريض حياة المواطنين للخطر في موكب زفاف بالإسماعيلية    شافها في مقطع إباحي.. تفاصيل اتهام سائق لزوجته بالزنا مع عاطل بكرداسة    مصطفى قمر يشعل حفل زفاف ابنة سامح يسري (صور)    حظك اليوم برج العذراء الأحد 19-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أصل الحكاية.. «مدينة تانيس» مركز الحكم والديانة في مصر القديمة    باسم سمرة يكشف عن صور من كواليس شخصيته في فيلم «اللعب مع العيال»    "التصنيع الدوائي" تكشف سبب أزمة اختفاء الأدوية في مصر    بعد ارتفاعه.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 19 مايو 2024    وظائف خالية ب وزارة المالية (المستندات والشروط)    إجراء من «كاف» ضد اثنين من لاعبي الأهلي عقب مباراة الترجي    قفزة جديدة ب160 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الأحد 19 مايو 2024 بالصاغة (آخر تحديث)    أوكرانيا تُسقط طائرة هجومية روسية من طراز "سوخوى - 25"    رئيس الموساد السابق: نتنياهو يتعمد منع إعادة المحتجزين فى غزة    رقصة على ضفاف النيل تنتهي بجثة طالب في المياه بالجيزة    نقيب الصحفيين: قرار الأوقاف بمنع تصوير الجنازات يعتدي على الدستور والقانون    مدافع الترجي: حظوظنا قائمة في التتويج بدوري أبطال أفريقيا أمام الأهلي    دييجو إلياس يتوج ببطولة العالم للاسكواش بعد الفوز على مصطفى عسل    صرف 90 % من المقررات التموينية لأصحاب البطاقات خلال مايو    اليوم السابع يحتفى بفيلم رفعت عينى للسما وصناعه المشارك فى مهرجان كان    ماجد منير: موقف مصر واضح من القضية الفلسطينية وأهداف نتنياهو لن تتحقق    أخذتُ ابني الصبي معي في الحج فهل يصح حجُّه؟.. الإفتاء تُجيب    رغم تعمق الانقسام فى إسرائيل.. لماذا لم تسقط حكومة نتنياهو حتى الآن؟    تزامناً مع الموجة الحارة.. نصائح من الصحة للمواطنين لمواجهة ارتفاع الحرارة    بذور للأكل للتغلب على حرارة الطقس والوزن الزائد    الهبوط والعصب الحائر.. جمال شعبان يتحدث عن الضغط المنخفض    حريق بالمحور المركزي في 6 أكتوبر    مصرع شخص في انقلاب سيارته داخل مصرف بالمنوفية    مسلم يطرح أحدث أغاني ألبومه الجديد «اتقابلنا» (تعرف على كلماتها)    «فايزة» سيدة صناعة «الأكياب» تكشف أسرار المهنة: «المغزل» أهم أداة فى العمل    إعادة محاكمة المتهمين في قضية "أحداث مجلس الوزراء" اليوم    الأزهر يوضح أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة    تعرف علي حكم وشروط الأضحية 2024.. تفاصيل    وزير روسي: التبادلات السياحية مع كوريا الشمالية تكتسب شعبية أكبر    البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي الأمريكي سيبحث مع ولي العهد السعودي الحرب في غزة    على متنها اثنين مصريين.. غرق سفينة شحن في البحر الأسود    هل يعني قرار محكمة النقض براءة «أبوتريكة» من دعم الإرهاب؟ (فيديو)    نقص أوميغا 6 و3 يعرضك لخطر الوفاة    أدعية مستحبة خلال مناسك الحج.. تعرف عليها    وزير التعليم: التكنولوجيا يجب أن تساعد وتتكامل مع البرنامج التعليمي    نموذج إجابة امتحان اللغة العربية للصف الثالث الإعدادي محافظة الجيزة    إطلاق أول صندوق للطوارئ للمصريين بالخارج قريبًا    مفتي الجمهورية: يجوز التبرع للمشروعات الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عطر الأحباب .. نجيب محفوظ والسينما .. كتب السيناريو لأكثر من عشرة أفلام قبل أن تنتبه السينما إلى عبقرية رواياته!
نشر في اليوم السابع يوم 14 - 12 - 2013


نقلاً عن العدد اليومى..
لماذا عطر الأحباب
تنطلق اليوم عزيزي القارئ أولى صفحات (عطر الأحباب) ذلك الباب الجديد الذي اقترحه عليّ الصديق العزيز الأستاذ خالد صلاح رئيس التحرير، حيث أصبحت مصر في حاجة ماسة إلى تسليط الضوء على أجمل ما في تاريخها الإبداعي، بعد أن مرّت عليها فترات عصيبة أهانت الإبداع وحرّمت الفنون، واستخفت بتراثنا المستنير وهو كثير ومشرق لو تعلمون.
سنسعى كل أسبوع إلى الغوص في بحار الفن والثقافة المصريين، نستخرج منها اللآلئ الثمينة والجواهرة المخبوءة، خاصة تلك التي أنجزها المبدعون في الفترة المضيئة التي عرفنا فيها الطريق إلى الدولة المدنية الحديثة مع مطلع القرن العشرين.
لعلك تتفق معي على أن تراث أي شعب ليس كله عسلاً، ومع ذلك فتراثنا بامتداد القرن العشرين يحتشد بمئات الأعمال البديعة من موسيقى وغناء وسينما ومسرح ولوحات وتماثيل أسهمت لا ريب في تشكيل وجدان وذائقة المصريين، ورققت مشاعرهم، فضلاً عن الكتابات العميقة للشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى والمازني والعقاد وشوقي وحافظ ويحيى حقي وزكي نجيب محمود ومحفوظ وغيرهم، إذ يمكن اعتبار العقود التي تلت ثورة 1919 العظيمة بمثابة سنوات الرفعة والمجد التي استمرت تنمو وتزدهر، فلما جاءت ثورة يوليو 1952 راكمت على ما قبلها من إبداعات رفيعة وفنون آسرة حتى مطلع سبعينيات القرن المنصرم، إذ دارت الأيام دورة معاكسة، وهوت مصرنا الحبيبة في مستنقع التجهيل والقبح والفساد.
ولأن الفن جزء من – وتعبير عن – واقع سياسي واجتماعي واقتصادي محدد، سنحاول في (عطر الأحباب) اكتشاف العلاقة التي تربط بين عناصر الفن والواقع المحيط به، برغم علمنا التام بأن لكل فن قانونه الخاص والمتفرد، وأنه ليس هناك علاقة آلية وجامدة بين العمل الإبداعي وبين الظروف السياسية والاقتصادية!
أنت تعرف، وأنا أعرف، أن الشعب المصري أدهش العالم كله حين انتفض ثائرًا في 25 يناير 2011 ضد حكم مبارك الباهت والظالم والمستبد حتى أسقط نظامه، ثم احتشد مرة أخرى بالملايين في 30 يونيو 2013 ضد حكم جماعة الإخوان حين أدرك بفطرته أن دولته العظيمة مصر مهددة بالانفراط والتآكل على يد هذه الجماعة التي لا تؤمن بوطن ولا تحترم إبداع.
هنا يأتي دور الإبداع الجميل والمشرق لينهض بالمجتمع، ويدفعه برفق إلى الأمام، وهنا أيضاً نأمل أن تؤدي (عطر الأحباب) دورها المأمول في استرجاع أجمل ما في تراثنا عسى أن ننشط الذاكرة، لأن معرفة التاريخ جيدًا تساعدنا على فهم الحاضر واستشراف المستقبل، وليس سوى الإبداع من يرشدنا إلى ذلك بفن وجمال!
الأمر بين يديك الآن أيها القارئ الكريم، وتذكر جيدًا أن إرضاءك هدف أعظم لنا، فلا تحرمنا من آرائك ومشاركاتك، حتى ننهض بمصرنا الحبيبة إلى قمم نبيلة تستحقها بعد عقود بائسة سيطر فيها حكام أوباش على بلدنا، فلم يقدروا تاريخها، ولم يفهموا شعبها، فأهانوها وأهانوه!
عزيزي القارئ.. هيا معًا نستنشق عطر الأحباب، فما أجمله من عطر!
عرف نجيب محفوظ طريقه إلى الشاشة البيضاء قبل أن تفطن السينما إلى رواياته المدهشة فتقدم على إنتاجها وإخراجها، فهل أنصفت السينما أدب نجيب محفوظ، أم أنها أظهرته بصورة لا تليق جعلت العامة ترى صاحب نوبل 1988 مجرد كاتب متواضع يروج للرذيلة والعنف؟
فى هذه السطور سنقدم إطلالة سريعة على العالم السخى لصاحب الثلاثية من خلال علاقته بالسينما بمناسبة مرور 102 سنة على ميلاده، فقد ولد الرجل فى 11 ديسمبر 1911، لكن قبل أن نخوض نهر السينما المحفوظية عندى ملاحظتان أريد تحريرهما قبل أن تقرأ، الأولى أن محفوظ لم يعمل بالسينما قط طوال العهد الملكى الذى انقضى وزال مع ثورة 23 يوليو 1952، والملاحظة الثانية أن جميع الأفلام التى تصدى لكتابة السيناريو لها تهدف إلى إشاعة العدل والحرية، فى الوقت الذى تدين فيه الظلم والاستبداد، وهذه خصال حرص محفوظ أشد الحرص على تأكيدها فى مجمل رواياته وأعماله القصصية، وإنْ بأسلوب أدبى بالغ الرهافة والسحر.
البداية مع السيناريو
فى 23 فبراير 1953 تم عرض فيلم «ريا وسكينة» الذى أخذت قصته عن تحقيق صحفى للأستاذ لطفى عثمان، المحرر بالأهرام، كما جاء فى مقدمة الفيلم، أما السيناريو فكتبه نجيب محفوظ ومخرج الفيلم صلاح أبوسيف الذى يرتبط بعلاقة صداقة مع محفوظ، واعتبر هذا الفيلم باكورة علاقة محفوظ بالسينما، لاحظ أن نجيب فى ذلك الوقت كان قد أصدر مجموعة مدهشة من رواياته مثل القاهرة الجديدة وخان الخليلى وبداية ونهاية وزقاق المدق والسراب، ناهيك عن رواياته التاريخية الأولى «كفاح طيبة/ عبث الأقدار/ رادوبيس»، ومع ذلك لم تتجرأ السينما على التعامل مع رواياته مباشرة إلا بعد سبع سنوات كاملة من دخوله عالم الفن السابع!
بعد عام واحد تقريبًا، وفى 5 مارس 1954 عرض فيلم «الوحش»، وهو الفيلم الثانى الذى كتب له السيناريو نجيب محفوظ مع مخرجه صلاح أبوسيف، وفى المرتين كان اسم نجيب يكتب قبل صلاح، وكانت اسماهما يأتيان بعد أسماء نجوم الفيلم وممثليه خالية من أى تفخيم أو إكبار!
أما فى 18 أكتوبر 1954 فقد شاهد الجمهور فيلم «جعلونى مجرمًا» للمرة الأولى، وقد شارك نجيب محفوظ فى كتابة سيناريو هذا الفيلم، كلا من السيد بدير ومخرج الفيلم عاطف سالم، وقد سبق اسم محفوظ الاثنين الآخرين! وبعد أقل من شهر، وفى 8 نوفمبر 1954 عرض فيلم «فتوات الحسينية» وهو أول فيلم يكتب قصته للسينما محفوظ نفسه، فضلاً على السيناريو، بمشاركة مخرج الفيلم نيازى مصطفى، ولعله أول أفلام الرجل عن أجواء الفتونة ومخاطرها، حيث إنه أثرى المكتبة العربية بعد ذلك بروايات آسرة تكشف عالم الحارات وصراع الفتوات مثل «أولاد حارتنا» و«الحرافيش».
يعد فيلم «درب المهابيل» أول فيلم يكتب فيه اسم نجيب محفوظ قبل أسماء نجوم الفيلم، إذ تظهر المقدمة هكذا «أفلام النجاح محمد فرج وشركاه تقدم درب المهابيل قصة نجيب محفوظ»، ثم تتوالى أسماء نجوم الفيلم، يعقبها كاتبا السيناريو محفوظ وتوفيق صالح مخرج الفيلم، وقد عرض هذا الفيلم فى 25 يوليو 1955، الأمر الذى يشير إلى أن صاحب الثلاثية قد أدركته حرفة السينما، وحقق فيها نجاحًا ملحوظاً، وقد سمعته غير مرة يقول ضاحكاً إن فترة عمله بالسينما كانت من أكثر الفترات التى تيسرت فيها أحواله المالية! «أفتح هذا القوس لأذكرك بما قاله فريد شوقى منتج فيلم جعلونى مجرمًا بأنه قد تعاقد مع محفوظ على 100 جنيه نظير كتابته لسيناريو هذا الفيلم».
لكن مع فيلم «النمرود»- عرض فى 7 مايو 1956- تراجعت مكانة نجيب محفوظ بشكل واضح، إذ بعد أن كتبَ اسمه بمفرده على الشاشة، وفى البداية وقبل النجوم، فى فيلم «درب المهابيل»، وضعَ اسمه على الشاشة ضمن خمسة أسماء فى فيلم «النمرود»، ترأسها فريد شوقى بوصفه مؤلف القصة، ثم نجيب محفوظ ببنط أصغر، يليه محمود صبح والسيد بدير بوصفهما كتابى السيناريو، وفى الأخير السيد بدير كاتب الحوار! ثم ازداد الأمر سوءًا مع فيلم «الفتوة» الذى عرض فى 29 إبريل 1957، إذ تراجع اسمه على الشاشة بصورة ملحوظة، فقد كان ترتيبه الخامس من ستة أسماء كالتالى: قصة محمود صبحى وفريد شوقى/ سيناريو محمود صبحى/ السيد بدير/ نجيب محفوظ/ صلاح أبوسيف، وهو أمر ليس له تفسير سوى أن الرجل لم يكن منشغلاً بحجم اسمه وكيف يكتب وأين يوضع!
المجرم والطريق وجميلة
أما فى فيلم «مجرم فى إجازة» فقد ارتفع اسم محفوظ قليلاً، حيث جاء فى الترتيب الثانى على الشاشة، بعد كاتب القصة كامل التلمسانى الذى اشترك أيضا فى كتابة السيناريو، وقد عرض هذا الفيلم الذى أخرجه صلاح أبو سيف فى 10 مارس 1958، وفى خطوة جريئة كتب محفوظ للسينما قصة «ساحر النساء» ولم يشارك فى كتابة سيناريو هذا الفيلم الذى أخرجه فطين عبدالوهاب، واستقبله جمهور الشاشة البيضاء للمرة الأولى فى 21 إبريل 1958، وقد استعاد محفوظ مجده، حيث تصدر اسمه بالبنط العريض قائمة من ثلاثة أسماء آخرين كتبوا بخط أصغر!
المدهش أن نجيب محفوظ لم يجد أية غضاضة فى كتابة سيناريو رواية «الطريق المسدود» لإحسان عبدالقدوس، وهكذا عرض الفيلم الذى أخرجه صلاح أبوسيف فى 22 إبريل 1958، ليحقق نجاحًا كبيرًا آنذاك. وفى 20 أكتوبر 1958 عاد اسم نجيب محفوظ ليكون أول اثنين كتبا سيناريو فيلم «الهاربة» مع مخرجه حسن رمزى، أما فيلم «جميلة» ليوسف شاهين، فقد تصدر اسم محفوظ قائمة كتاب السيناريو، وهم: عبدالرحمن الشرقاوى، وعلى الزرقانى، ووجيه نجيب، فى حين أن القصة كانت من نصيب يوسف السباعى، وقد عرض الفيلم فى 9 ديسمبر 1958.
المثير أن نجيب كرر تجربة كتابة سيناريو بشكل منفرد لرواية أخرى لإحسان عبدالقدوس، وهى «أنا حرة»، ويبدو أن العائد المالى لهذه المهنة كان مغريًا، ولا تنس أن نجيب محفوظ فى ذلك الوقت كان موظفاً حكوميًا يتقاضى نحو 50 جنيهاً كما قال فى أكثر من حديث. وقد عرض هذا الفيلم الذى أخرجه صلاح أبو سيف فى 12 يناير 1959.
أولاد حارتنا والله أكبر
من مفارقات القدر أن رواية «أولاد حارتنا» التى نشرت مسلسلة فى عام 1959 بالأهرام واتهم فيها نجيب محفوظ بأنه يتجاوز اللائق مع الأديان، أقول من المفارقات أن هذا العام شهد عرض فيلم «الله أكبر» الذى كتب له السيناريو نجيب محفوظ نفسه، وهو فيلم أخرجه إبراهيم السيد ويتناول بذكاء كيف استطاع الدين الإسلامى الجديد أن ينتصر بالحب والرحمة والعدل على جبروت حاكم مستبد يعبد الأوثان ويسيطر على إحدى مناطق شبه الجزيرة العربية، ويفرض على أهلها ضرائب باهظة وعذابات مستمرة. أى أن الذين أدانوا «أولاد حارتنا» وقادوا السذج ليقذفوا مبنى جريدة الأهرام بالحجارة، لم ينتبهوا إلى الفيلم الذى كانت دور السينما قد بدأت تعرضه فى 23 مارس 1959، وكيف أن كاتب سيناريو هذا الفيلم رجل مترع قلبه بإيمان كبير!
فى فيلم «احنا التلامذة» كتب اسم نجيب محفوظ على الشاشة بمفرده لأول مرة ببنط عريض وخط رقعة جميل بوصفه كاتب السيناريو، ويبدو أن مخرج الفيلم عاطف سالم قد أراد أن يحتفى بالرجل إثر الحملة التى تعرض لها بسبب روايته «أولاد حارتنا» التى كانت تنشر فى ذلك العام، وقد حقق هذا الفيلم- عرض فى 12 أكتوبر 1959- نجاحا لافتا آنذاك.
بين السماء والأرض والثرثرة
أظنك لاحظت العلاقة الوثيقة بين فيلم «بين السماء والأرض» الذى أخرجه صلاح أبوسيف وكتب قصته نجيب محفوظ خصيصًا للسينما، ولم يكتب له السيناريو- عرض يوم 9 نوفمبر 1959- وبين روايته الباذخة «ثرثرة فوق النيل/ صدرت 1966»، إذ إن الفكرة فى كليهما تنهض على تواجد مجموعة من البشر فى مكان واحد، وما يكتنف ذلك من صراعات ونقاشات تكشف طبيعة الإنسان وضعفه فى اللحظات الحرجة.
عند هذا الحد توقف السيناريست نجيب محفوظ عن التعامل مع السينما، واكتفى بعد عام واحد فقط بأن تبتاع السينما رواياته، وتقدمها للجمهور دون أى تدخل منه، فإذا كنت ترغب فى معرفة لماذا توقف عن كتابة السيناريو؟ وهل لثورة يوليو وعبدالناصر دخل فى هذا؟ وكيف تعاملت السينما مع رواياته؟ فعليك الانتظار حتى الأسبوع المقبل.. إن لم يكن لديك مانع!
الأغنية التى جعلت أم كلثوم «كوكب الشرق»
فى عام 1923 غادرت أم كلثوم قريتها طماى الزهايرة بالدقهلية، وهبطت أرض القاهرة بصحبة أسرتها، بناءً على إلحاح بعض الموسيقيين الكبار مثل أبى العلا محمد، وزكريا أحمد، بعد أن تأكد لهما أن صوت هذه الفتاة جوهرة ثمينة فى عالم الغناء والطرب، ينبغى لها أن تشع فى عاصمة الفن. وفى العام نفسه نجح المصريون فى كتابة دستور عصرى حديث، بعد كفاح طويل ضد الاحتلال الإنجليزى من ناحية، وضد بطش الملك فؤاد من ناحية أخرى. أما فى العام التالى 1924 فقد التقى أمير الشعراء أحمد شوقى بعبد الوهاب فانتبه إلى موهبته الموسيقية المتفجرة، وصوته الآسر فتبناه، وظل الشاب ملاصقاً للأمير حتى رحيل الأخير فى سنة 1932، وفى عام 1924 أيضاً جرت أول انتخابات برلمانية حرة ونزيهة فى تاريخ مصر، وكانت المفاجأة المدهشة أن رئيس الوزراء الذى أجرى الانتخابات وهو يحيى باشا إبراهيم، قد سقط فى هذه الانتخابات، واكتسح الوفد البرلمان، وشكل الحكومة برئاسة زعيمه سعد زغلول!
لقد كان المصريون يحصدون كل يوم ثمرة طيبة من ثمار ثورة 1919 فى ذلك الزمن البعيد، وكانت أم كلثوم تقفز من مكانة فنية إلى أخرى طوال خمس سنوات، منذ استقرارها بالقاهرة، لكنها لم تستوِ أبدًا على عرش الغناء إلا فى عام 1928، أى بعد تأسيس شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى بعام واحد فقط، إذ مثلت هذه الشركة طفرة كبرى فى الصناعة الوطنية، أججت شعور المصريين بذواتهم، وقدرتهم على خوض غمار التصنيع والمنافسة فى السوق العالمية، الأمر الذى جعلهم يقبلون على الفنون الجميلة بحماسة وافتتان.
دعنى أذكرك بأن الساحة الغنائية فى عام 1928 كانت تحتشد بمطربات أخريات حققن نجاحات ضخمة مثل سلطانة الطرب منيرة المهدية، ومطربة القطرين «مصر والشام» فتحية أحمد، بينما ظلت أم كلثوم تشاكس وتجتهد وتتقن عملها حتى تحقق لها ما أرادت!
وفقاً لجمال حمدان، فإن عددنا نحن المصريين بلغ نحو 14 مليون نسمة فى عام 1928، ولك أن تتعجب كيف أقبل الشعب على اقتناء نصف مليون إسطوانة من أغنية أم كلثوم «إن كنت اسامح وانسى الأسية»، ولا تفسير سوى أن الناس فطنت أخيرًا إلى هذه المعجزة البشرية التى تأكل الطعام وتمشى فى الأسواق، رغم أن أم كلثوم قد سجلت أكثر من 25 أغنية قبلها منذ صافح صوتها آذان الناس ومشاعرهم فى القاهرة.
رجاء انصت إلى هذه الأغنية التى كتب كلماتها أحمد رامى، ولحنها محمد القصبجى، ثلاث مرات.. الأولى للاكتشاف، والثانية للاندهاش، والثالثة للاستمتاع، ولتعرف أيضاً كيف تمتع أجدادنا بحاسة ذوق رفيعة ومدهشة، ولتدرك براعة السيدة فى التلوين الصوتى والإحساس النغمى والأداء الباذخ الذى فاق الأقدمين والمحدثين. بالمناسبة مدة الأغنية نحو 6 دقائق و13 ثانية على موقع اليوتيوب.
تقول كلمات الأغنية:
إن كنت اسامح وانسى الأسية
ما اخلص فى عمرى من لوم عينيا
دبَّل جفونها كتر النواح
فاضت شؤونها ونورها راح
تقول لى انس واشفق عليا
وآجى انسى يصعب عليّا
وإن كنت أرضى الهوان فى حبى
ما اخلص فى عمرى من ذل قلبى
طوِّل أنينه كتر العذاب
وزاد حنينه طول الغياب
يقول لى انسى واشفق عليا
وآجى انسى يصعب عليّا
العين عزيزة والقلب غالى
ومش عاجبهم فى الحب حالى
ما تنصفينى وترقّى ليّا
وترحمينى منهم شويه
إوعى تجافينى يا نور عينيا
لأحسن بعادك يهون عليّا
يحيى حقى.. الدبلوماسى عاشق الموسيقى!
فى 9 ديسمبر الجارى مرّت 21 سنة على رحيل الأديب الكبير يحيى حقى، الذى شرفت بصداقته فترة طويلة حتى رحيله فى 1992، وهكذا وجدتنى أستعيد الفرصة الذهبية التى منحتنى إياها المقادير فى عام 1984، حيث رافقت الأديب الكبير يحيى حقى إلى روما فى رحلة لم تتكرر، لذا قررت أن أهيئ له الظروف كلها ليعود نصف قرن إلى الوراء، ويستدعى من الذاكرة أحداث زيارته لإيطاليا لأول مرة قبل نصف قرن، يوم تعيينه فى عام 1934 وكيلًا للقنصلية المصرية، وفى أزقة روما وميادينها الشهيرة، أخذ يتحدث صاحب «قنديل أم هاشم»، و«تعال معى إلى الكونسير» وفيض من المؤلفات البديعة التى تمتلك القدرة على مقاومة الفناء.
يقول يحيى حقى: يجب أن أعترف لك بأننى عندما وضعت قدمى على هذه الأرض، منذ أيام، أحسست برِدةٍ شديدة إلى الوراء.. بجذبة شديدة من الشيخوخة إلى الشباب.. وأنا لا تشغلنى الأمور الهامشية فى المدن، ولا أعلق عليها أهمية. لذا فما كان يهمنى معرفته.. هو ماذا جرى للشعب الإيطالى بعد نصف قرن، وإلى أى مدى وصل مستوى تفكيره، وكيف اختلف نمط حياته؟
لقد فهمت من أحد المعماريين الذين زارونى بصحبة إحدى المستشرقات الإيطاليات، أن المعمار نفسه تغير فى إيطاليا بسبب ما طرأ على الأسرة هنا من تغير؛ فمثلًا عدم نوم الزوج والزوجة معًا فى غرفة واحدة جعل البيت الإيطالى يختلف رسمه وتصميمه، إذن الحياة الاجتماعية انعكست بوضوح على نمط العمارة الحديثة.
وأسأله: كيف يتمثل فضل روما عليك؟
كان أول اتصال لى بالحضارة الأوروبية هنا فى روما. ولا تنس أن روما هى وارثة الحضارة الرومانية التى يتصل تاريخنا بها اتصالًا وثيقًا، وتعتبر جبال الألب الشمالية فاصلًا بين جزءين مهمين من أوروبا؛ شمال الألب كان بلاداً خاضعة لأحكام بربرية، وجنوب الألب شمس مشرقة وحضارة قديمة وفن: نحت ومعمار وأدب وشعر وحاجة فوق الوصف. فالذين يأتون من شمال الألب إلى روما، ينبهرون بالحضارة لأنه لا توجد لديهم أشياء من هذا القبيل.
أما أنا فكنت دائم القول: لا تنتظروا منى انبهارًا كانبهار الذين يأتون من شمال الألب، لأننى جئت من بلاد أعرق منهم.
أدرت دفة الحديث إلى مناحى من حياته قد لا يعرفها كثيرون: وكيف أفادك العمل الدبلوماسى؟
فأجاب: الدبلوماسية جعلتنى أعرف أنماطًا من الناس، فالدبلوماسى فى حفل واحد يحضره يلتقى ببشر من خمسين جنسية، ومن الدبلوماسية يتعلم الإنسان حسن التصرف، وكيف يتعامل بلباقة مع المواقف والبشر، وهذا كله ينعكس على أسلوب الأديب عند الكتابة.
وقد علمتنى الدبلوماسية ألا ألجأ إلى استخدام السخرية الجارحة والتهكم الشديد، وهذا مفيد أيضًا للكاتب، فيمكنه أن يسخر من بطل قصته بدون أن يجرحه.
وهل ألهمتك روما شيئًا من الإبداع؟
.. فيها خطرت ببالى فكرة تأليف كتابى «تعال معى إلى الكونسير» الذى شرحت فيه كيفية اتصالى بالموسيقى الغربية.
وفى هذا الكتاب رسمت لوحة لما يجرى فى الصالة انتظارًا لحفل الكونسير فقلت: كل المصابيح مضاءةً، سافرةً ومحجبةً، كان الجميع يجلسون فى أماكنهم، الحركات والإيماءات والابتسامات المتبادلة ملفوفة بأدب مراسيمى محنط من عهد فرساى، الصالة كأنها فى حضرة مدام ريكامييه وهى تستقبل حشدًا من ضيوفها فى صالونها الصغير، فجزاء المتأخر فى الحضور إلى الحفلة وهو يلمس ركبة بعد ركبة ليصل إلى مقعده الجوانى، ومحراثه همسة: «عفوًا، عن إذنك» أن يصوب إليه صاحب الركبة، وهو يديرها قليلًا يمنة ويسرة، نظرات ظاهرها السماح وباطنها التأفف من هذا الجلف بين المتأنقين، فهذا مجتمع من طواويس الثقافة والذوق والكياسة، يريد كل منها أن يبز الآخر فى نفشة ذيله.
مئات الأحاديث الخافتة بمختلف اللغات، رجالى وحريمى، تدوى فى الصالة همهمة مختلطة مبهمة، ولكنها متجانسة كسطح كرة ملساء تدور حول محورها بسرعة، لها طنين، همهمة لا يمكن فكها وإرجاعها إلى أصولها، كشقشقة الطيور تحت مظلة الشجرة قبل النوم عند الغروب. ومع ذلك فهى همهمة تحكى حكاية واحدة جذلة لترقب متعة لذيذة نادرة، هى من نفحات السماء.
إن كانت فى الحياة ساعة صفو فهى هذه الساعة: النفوس فى نشوة، خلت عنها همومها، الجباه مضيئة، والعيون لامعة، والقلوب متطهرة، وكأنما ارتد الجميع إلى عهد الطفولة.. بلغت الضجة ذروتها لغلبة إحساسهم كلهم بأنهم عما قليل سيصمتون صمت القبور، لعلهم يشعرون براحة فى هذا الهبوط المفاجئ من شاهق، سيبلغ كل واحد ريقه فى حلق جاف.
ومن باب جانبى من المسرح يتقاطر أعضاء الاوركسترا فردًا وزوجًا وثلاثًا وعنقودًا بلا ترتيب، كسلول الماء من صنبور «شَرّقان»، كل منهم يحمل آلته بيده، حريصًا عليها أشد الحرص. إلا الطبل والباس فإنها حملت إلى المسرح من قبل، لأن حملها ثقيل، جئنا لنشهد عازفين لا عتالين، وكذلك البيانو أو الهارب، إن كان فى البرنامج دور لأحدهما، ويتخذ أفراد الأوركسترا أماكنهم ويزحزحون كراسيهم إلى أن تستقر بهم، ويتأكدون من ثبات حاملات النوتة، ويقلبون أوراقها للاطمئنان على سلامة ترتيبها، مرة بأصابعهم ومرة بأطراف أقواس الكمان. قليل التفاتهم إلينا.
ثم يأخذ كل عازف فى تجربة آلته، يا لها من لحظة ممتعة، لا يعرفها إلا عشاق الأوركسترا، وكأن سيلا من نقود ذهبية وفضية ونحاسية انساب من كيس نقود، فأحدثت رنيناً مركبًا عجيبًا. وعن الفرق بين «الفيرتيوزو» - أى أمهر عازف - وعازف البيانو العادى قال لى يحيى حقيى: فرق إصبع بينهما.. وهذا الإصبع هو أصعب المراحل اجتيازاً، فأنت تستطيع أن تمر من المدرسة الابتدائية إلى الإعدادية إلى الثانوية والجامعة، وبعد ذلك هناك نقلة بسيطة جدًا وصعبة للغاية بين أن تكون عازفًا بارعًا وأن تصبح عازف فيرتيوزو.
حقاً.. لقد رحل يحيى حقى منذ زمن، لكن حديثه العذب مازال يرن فى أذنى كأنه أمس!
الطريق إلى «الوقائع المصرية»
متى عرف المصريون عالم الصحافة؟ وكيف تلقى نخبة الأمة أول جريدة يطلعون عليها فى حياتهم، وكانت جريدة فرنسية؟ ثم كيف نفسر هوس محمد على باشا بوسيلة الإعلام الوحيدة فى ذلك الزمن البعيد؟ وما الخطوات التى اتخذها ليتمكن من إصدار أول صحيفة مصرية أطلق عليها اسم «الوقايع المصرية»، وكان ذلك قبل 185 عامًا بالتمام والكمال؟
تعالوا ندخل سراديب التاريخ لنستعير من أنواره قبسًا يضىء لنا بعض المناطق المعتمة فى ماضينا، عسى أن نفهم واقعنا بشكل أفضل، فنعى مستقبلنا ونخطط للتعامل معه بصورة إيجابية.
نابليون وبريد مصر
حين وصلت الحملة الفرنسية إلى الديار المصرية فى صيف 1798، أمر نابليون بونابرت رجاله بإصدار جريدة يومية أطلق عليها اسم «لوكوربييه دى ليجيبت» أى «بريد مصر»، وكانت تطبع باللغة الفرنسية، وتتضمن أخبار مصر فى القاهرة والأقاليم، وتوزع على أفراد الحملة «55000 ضابط وجندى وعالم وإدارى».. رقم مهول.. أليس كذلك؟
المهم.. كانت «بريد مصر» أول تواصل واضح بين عالم الصحافة وبين المصريين، إذ إننا لم نكن نعلم شيئاً عن هذا العالم الذى ابتكرته أوروبا بعد اختراع المطبعة بفترة وجيزة على يد يوهان جوتنبرج عام 1447، لدرجة أن المؤرخ عظيم الشهرة الشيخ عبدالرحمن الجبرتى، أبدى اندهاشه العجيب حين علم بأمر صحيفة بريد مصر، فكتب يقول عن الفرنسيين وصحيفتهم «إن القوم كان لهم مزيد اعتناء بضبط الحوادث اليومية فى جميع دواوينهم، وأماكن أحكامهم.. فتجد أخبار الأمس معلومة للجليل والحقير منهم!».
طموح الوالى وذكاؤه
«ليكن بعلمك أنه يلزم أن ترسل الجرائد الواردة لنا من أوروبا» هذا نص ما كتبه الوالى محمد على باشا إلى الخواجة بغوص - المسؤول فيما يبدو عن إمداد الوالى بهذه الجرائد - كما جاء فى كتاب الدكتور إبراهيم عبده «تاريخ الوقائع المصرية»، ثم أضاف الباشا مُحذرًا «ومن الآن فصاعدًا، إذا لم تصل واحدة منها، فاعلم أنك لا تستطيع الاعتذار عما وقع». بعد رحيل الحملة الفرنسية فى سنة 1801، وبعد سلسلة من الصراعات الخبيثة والعنيفة سقطت تفاحة السلطة فى مصر فى فم محمد على باشا فى 1805، ولأنه شاهد بعينيه التأثير الفعال الذى تحدثه الصحافة، فقد واظب على استيراد الصحف الأجنبية من الخارج، حتى يطلع على الأجواء السياسية والدولية الفوارة بالأحداث فى ذلك الزمن البعيد.
فى المرة المقبلة نكمل الرحلة مع الوقائع
القائد العسكرى عبدالمنعم رياض
عرف المصريون الفنون الجميلة منذ آلاف السنين، وها هى آثارهم الخالدة تؤكد قدرتهم الخارقة على ترويض الحجر، وتشكيله فى منحوتات بالغة الرقة والعذوبة، ما زالت تسحر الألباب حتى هذه اللحظة، ثم مرّت علينا أزمنة بائسة زعم فيها المتخلفون أن الفنون حرام، وأن الإبداع كارثة، فتقهقرت مصر إلى الخلف قروناً عدة، وسقطت فى بئر الاحتلال العثمانى البغيض، حتى تلقت صدمة مروّعة حين وثب نابليون بونابرت وجنوده على القاهرة فى 1798، إذ أدرك المصريون آنذاك كم هم متخلفون، واكتشفوا أن الغرب قطع شوطاً كبيرًا فى التقدم، وأنه يتمتع الآن بفواكه التكنولوجيا الحديثة، بينما نحن صرنا عاكفين نرعى الجهل والفقر والمرض!
مع عصر الخديوى إسماعيل «1863/ 1879» استعاد المصريون علاقتهم بالفنون الجميلة، بعد أن ثقبوا جدران التخلف بالعلم والصناعة فى عهد محمد على، وراحت التماثيل تنتشر فى وسط القاهرة الذى شيده الخديوى على غرار وسط باريس، فرأينا تمثال إبراهيم باشا «والد الخديوى إسماعيل» يتصدر ساحة الأوبرا ممتطيًا جواده بكبرياء، وشاهدنا أسود كوبرى قصر النيل الأربعة وهى تجلس بإباء وشمم على حواف الكوبرى الشهير، ثم توالت فى القرن العشرين تماثيل الزعماء السياسيين والقادة العسكريين والكتاب والمبدعين مثل مصطفى كامل وسعد زغلول ومحمد فريد وطلعت حرب وعبدالمنعم رياض وطه حسين ونجيب محفوظ، لكن بسبب فوضى القاهرة فى العقود الأخيرة تاهت هذه التماثيل- التى نفذ معظمها فنانون أجانب- فى الغبار والدخان والصخب.
ترى هل تعرف الأجيال الحالية أصحاب هذه التماثيل، وماذا يمثلون؟ وما طبيعة أدوارهم فى الأزمان الخالية؟
فى هذا التحقيق نستقصى آراء بعض الشباب والمارة الذين تصادف وجودهم بجوار تمثالى عبدالمنعم رياض، ومصطفى كامل.
- شاب عن تمثال عبدالمنعم رياض: هذا تمثال أحمد عرابى مساعد الوزير السادات «أيام زمان»!
- بقال عن تمثال مصطفى كامل: كان زعيم ثورة 19 وهو الذى طرد الانجليز من مصر!
- خريج هندسة عن مصطفى كامل: لا أعرف عنه سوى أنه زعيم وطنى، وأنتوى القراءة عنه لأن اسمى على اسمه!
على حافة تمثال عبدالمنعم رياض كان يجلس شابان متوسطى الحال منهمكين فى حديث ضاحك، اقتربنا منهما، وسألنا «تمثال من هذا يا شباب؟»، ارتبك الشابان وتساءلا كيف لا نعلم تمثال من هذا؟ ثم بررا جهلهما قائلين: «إننا لم نتلق تعليمنا بمصر، ودراستنا برمتها كانت بالخارج ونحن نتجول هنا بالصدفة لنتعرف على تماثيل مصر المحروسة». ثم رد علينا أحد الشابين بكل جدية «هذا تمثال أحمد عرابى يا أستاذة!»، فلما سألته من أحمد عرابى.. فنحن لا نعرف؟ أجاب بثقة بعد أن استفز ذاكرته «أحمد عرابى كان مساعدًا لأحد الوزراء، وكان هذا الوزير يستشيره فى كل صغيرة وكبيرة؟»، فلما سألته: أى وزير تقصد؟ تردد قليلاً ثم قال «تقريبا السادات؟ أجل.. أحمد عرابى من زمان أيام السادات».
ومع سؤالنا لشخص آخر كان يقطع الطريق باتجاه شارع شامبليون، ويعمل باحثا بأحد مراكز الدراسات، قال: «هذا تمثال عبدالمنعم رياض، لأن الميدان يسمى باسم التمثال»، فى البداية كان واثقا فى إجابته، لكن عندما ضحكنا وقمنا بتشكيكه فى الإجابة، تردد قليلاً ثم قال «قد يكون تمثالاً للجندى المجهول»!
القائد العسكرى عبدالمنعم رياض
لمن لا يعرف فإن الفريق عبدالمنعم رياض ولد فى 22 أكتوبر 1919، وتوفى 9 مارس 1969، أما تمثاله فقد تم افتتاحه فى العيد القومى الثالث لمحافظة القاهرة فى 15 يوليو عام 2002 تكريمًا لدوره ومكانته فى تاريخنا العسكرى. حقق عبدالمنعم رياض إنجازات عسكرية متوالية على مدى خدمته فى القوات المسلحة المصرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.