لدى قناعة شخصية لا أعرف مدى مطابقتها للواقع وهى أننا كمصريين أكثر شعوب العالم استخداما لمكبرات الصوت.. فلا أتصور أن هناك بلدا تعانى من التلوث السمعى مثلما تعانى منه مصر.. فنحن شعب نفرط فى التعبير عن مشاعرنا حتى و لو بالتصنع والزيف.. لكن الطامة الكبرى تأتى حينما يعبر عن حالة الإيمان والتدين بالوسيلة المنبوذة نفسها التى تستخدم فى الأفراح والمناسبات الغوغائية الأخرى.. للتعبير عن المشاعر وهى وسيلة "الميكروفون" أو مكبر الصوت.. ففى هذه الحالة أفتقد فى تلك الأصوات الصادرة عن مكبرات الصوت أى مسحة من الإيمان أو التدين، ذلك أنه يصلنى إحساس آخر بأن لسان حال القائم على الشعائر الدينية بالمسجد هذا، إذا كان هناك أحد يقوم بهذا الدور خصيصى هذه الأيام. أشعر أن لسان حاله يقول "يا جماعة خذوا بالكم أنا متدين جدا" والدليل هو ذلك الصوت العالى الذى لا يضيق به إلا من هو ضال والعياذ بالله.. ولذلك سأعلى من الصوت أكثر حتى ينفجر ضيقا أو يتقبل هذا الصوت العالى.. أما من لا يتضايق فهو متدين مثلنا، ولذلك يستحق أن يسمع أكثر وأكثر بصوت أعلى.. هكذا أتخيل ما يدور فى نفس من يقوم بأداء الأذان خمس مرات يوميا أو من يلقى خطبة الجمعة والذى أحيانا لا يكتفى بخطبة الجمعة وصلاتها، بل يستمر إلى ما بعد الصلاة فى درس يقدمه خطيب المسجد بعد انتهائه من الصلاة والذى قد يحضره عدد من الأفراد يعدون على أصابع اليد الواحدة، أى أنه لو همس داخل المسجد لسمعه الحاضرون.. ويتكرر ذلك فى شهر رمضان المبارك.. بعد أذان العشاء وأداء صلاة القيام.. المشكلة تكمن فى أن المسافة بين المسجد والآخر فى الحى الواحد لا تتعدى بضعة أمتار، وبالطبع لا يصح أن يقوم المسجد بدوره إلا من خلال مكبر الصوت الذى أظن أنه الآن يوجد قبل أن يبنى المسجد.. وغالبا ما يكون بالمسجد أكثر من مكبر للصوت، فالمسجد الذى بجانب منزلى يضع القائمون عليه أربع مكبرات موجهة إلى الاتجاهات الأربعة، وبالتالى تتصارع الأصوات فى الوقت الواحد وخاصة حين تتعالى صيحات خطباء المساجد فى خطبة الجمعة بشكل صارخ وكأنه يقوم بأداء دور فى مسرحية ما.. فإذا بنا نسمع كلمة من هنا وكلمة من هناك وصيحة من هنا وصرخة من هناك فى حالة هيستريا سمعية صارخة أشبه بمن يعذب شخصا فى أحد المعتقلات.. بل ويتلذذ فى هذه الحالة وكأنها حالة سادية واضحة تمارس علينا باسم الدين.. أين أنت يا بلال.. يا صاحب الصوت الندى الذى اختاره رسول، الله صلى الله عليه وسلم، من بين صحابته لأنه أنداهم صوتا.. هكذا أتساءل متألمة بينى وبين نفسى على ذلك الحال التى وصل إليها المسلمون، ومدى التدنى الفكرى الذى يلخص القيم الدينية السمحة ويختزلها فى صوت عال أجش ومنفر.. وحين أجدنى محاصرة من كل جانب تحت تأثير هذه السادية السمعية الدينية.. ولا أملك إلا أن أقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله.. أستغفرك ربى وأتوب إليك".