الجمعة 18 أكتوبر 1963، كان يوما عاديا فى حياة أغلب البشر والشعوب، لكنه لم يكن يوما عاديا فى حياة "النوبيين"، إنه يوم الرحيل والاقتلاع من الجذور، يوم الهجرة المُرة، يوم يفارق فية النوبيون أرض الأجداد التى لم يعرفوا سواها ولم يعشقوا إلا إياها. تمر هذه الأيام ذكرى مرور نصف قرن من الرحيل، فبرغم وفاة ورحيل معظم الأجداد الذين عاشوا هذه الأيام العصيبة، إلا أن الآباء والأبناء والأحفاد ما زالوا يتبادلون تلك الذكريات ويورثونها جيلا بعد جيل، لتكون بمثابة وصية محكية وعهدا مُلزما ومراثا مُغيبا نقسم ألا ننساه إلا بعودة النوبة إلى حضن الأحفاد وبعودة الأحفاد لحضن النوبة. حكايات الهجرة المُرة كثيرة مؤلمة وموجعة، فقط لأصحاب الضمائر الحية، لكل من يعى معنى "الأرض" ولكل من يعرف قيمة "الإنسان " وكرامتة التى أهدرت فى تلك الأيام وما بعدها. يحكى المرحوم "حسن دفع الله" واصفا تهجير أهلنا من "وادى حلفا قائلا: (.. حلت ساعة الفراق، حيث دخل معظم أرباب الأسر إلى منازلهم لإلقاء النظرة الأخيرة عليها، ثم خرجوا وهم ينزعون المفاتيح الخشبية من الأبواب الخارجية" تذكارا وجدانيا عزيزاً"، واتجهوا بعد ذلك فى موكب كبير إلى المقابر لقراءة الفاتحة على قبور أسلافهم وموتاهم، وعادوا يذرفون الدموع ويبكى بعضهم بحرقة وعويل، وظلوا يديمون النظر إلى موطنهم. وفى المساء حين أرسل القطار صفارته العالية انهمرت دموع غالب الركاب بينما عمت المحطة نوبة من العويل والصراخ فى أوساط المودعين، وأخذت استمع بانتباه إلى ما يقولونه بالنوبية وهم يلوحون بعمائمهم للمسافرين قائلين (أفيالوجو.. هيروجو) أى (رافقتكم العافية.. وعلى خيرة الله) وعندما أخذ القطار يتحرك كان "الحلفاويون" قد خطوا فعلا أولى خطى الخروج من دارهم التى ستغمرها مياه السد العالى بعد حين، وظل المسافرون يحدقون فى موطنهم حتى تتضاءل فى أنظارهم كلما أوغل القطار جنوبا واختفى بعيداً عن الأنظار). كانت هذه رحلة تهجير أهل وادى حلفا، أجمل مدن النوبة فى الشطر السودانى وأحدثها على الإطلاق، وكان الرحيل من جنة الله فى أرضه إلى مناطق سيئة فى أقصى شرق السودان (خشم القربة)، بعيدا بعيدا عن الموطن كما لو كانوا يعتقدون أنهم بهذا البعد سوف يفطموننا حب أمنا النوبة، ولاختيار هذه المنطقة البعيدة، قصة سوف أرويها فى مرات قادمة. نتذكر ولا ننسى، ومما نتذكره ونتبادله حتى الآن تلك القصة التى تظهر مدى الزور والتزوير ومدى الحرص على خداع الرأى العام باختلاق سعادة كاذبة تم الترتيب لها وتم تصويرها حتى يدارى من أجرم فى حق النوبيين جرمة يقول شاهد عيان يعيش حتى الان: (...كان فى انتظار أهالى النوبة المهجرين بالبوسطة (البواخر) مع "حيوانتهم" فى نفس الباخرة بميناء الشلال مجموعة من النوبيين الذين يعملون بأسوان وذلك للمساعدة. لا صوت يعلو فوق صوت "نحيب النساء الكبار" اللاتى مسحهن وجوهن "بهباب أفران "المنازل (أبور تى أُورومى) حزنا على الرحيل بينما "أمر بعض العُمد النساء بالزغاريد"!، بعد أن تلقى الأوامر من موظفى التهجير"الجوربتية" (الغرباء) وذلك لإقناع الناس بفرحة النوبيين بالهجرة!!). وهناك كانت عدسات المصورين والكاميرات التليفزيونية التى تصورهم كالحمام الذى يرقص- فى نظرهم - ولكنه كان رقص الطير المذبوح ألما. أيام وسنوات، تمر لكن لم ولن ننسى، فكيف ننسى وحكايات الأجداد والآباء تطارد أسماعنا؟ كيف ننسى ولوننا الذى هو من لون أرضنا يشير إلينا وعلينا ويذكرنا بأننا منه وهو منا؟ كيف ننسى وهل ينسى أحد تاريخه وتراثه وأصله وأرضه وعرضه؟ تمر الذكرى الخمسون ولا تكريم ولا تذكير ولا اعتذار ولا اعتبار لمن قدم وضحى واكتوى بنار الغُربة والاغتراب، لمن غادر ويأمل فى أن يعود. * ناشط نوبى ومؤسسة جمعية نوبى المهجر.