يذكر يوم مات أبوه عندما كان فى الخامسة والأربعين، كان قد مضى على آخر لقاء بينهما أكثر من 3 أيام وليومين قبيل وفاته كان يلح عليه ليزوره، وأن يأتى معه بساندويتش من الطعمية الذى كان عاشقا له دائما. كان قد اعتزم أنه سيزور والده، يوم السبت ولكن الموت كان أسرع منه إليه فأتاه خبر وفاة والده فجر السبت، وكأن القدر يعاقبه على تقصيره تجاهه، يومها ولأيام تالية كان يشق على نفسه بالعتاب لتقصيره فى حق والده.. حتى اليوم ما زال يحمل نفسه ذنب وفاة والده بحلم كان فى يده تحقيقه ولم يفعل. عندما كان فى الخامسة اصطحبته أمه يوما لمول تجارى جديد، فى الحقيقة كان المكان مبهرا ولكن جل ما كان يشغله حينها هى تلك البالونات الطائرة، كانت أول مرة له يشاهدها ويذكر أنه عندما سأل والدته أخبرته أنها بالونات من الهاليوم وكأى طفل لم يخرج من المول قبل أن يحصل على واحدة، وظل باقى اليوم داخل المول يحلم ببالوناته تطير معه فى الليل فى أحلامه. فى الحقيقة كانت أحلامه كلها منحصرة حول تلك البالونة حتى أنه وعلى غير العادة ومما أثلج صدر الأم أنه لم يطلب الآيس كريم قبل أن يخرجوا من المول، ولن تضطر للدخول فى جدال معه حول خطورة الآيس كريم على لوزتيه الضعيفتين.. يومها خرجوا من المول ليركبوا السيارة ليتوقف الزمن بالطفل لحظات حين أفلت بالوناته الصغيرة ليفتح باب السيارة.. لحظات ما زال يذكرها جيدا فقد كان يشاهد أحلامه تطير أمامه لتختفى فى الفضاء الواسع.. يومها أعلن كرهه للفضاء، ولعن الهاليوم ولعن قانون الجاذبية الضعيف.. يومها أيضا عرف معنى تحطم أسوار النفس تحت خبطات القدر حينما ينوى سرقة الأحلام من داخلها. عندما كان فى الثانوية العامة كان يحلم بدخول الجامعة الأمريكية ليدرس إدارة الأعمال، كان حصوله على مجموع 94٪ فى المرحلة الأولى بمثابة مفتاح الأحلام الذى سيوصله لمراده فمثل هذا التقدير لن يُقَدر له دخول كلية الطب مثل والده وبالتأكيد سيصل لمراده قريبا بعد إنهائه المرحلة الثانية من الثانوية العامة. ظل ولمدة 6 سنوات هى مدة دراسته فى كلية الطب لا يراوده سوى هذا كابوس واحد وهو ليلة ظهور نتيجة المرحلة الثانية من الثانوية العامة وحصوله على مجموع 100٪ المجموع الذى حقق أحلام كل من حوله إلا هو فقد كان هذا المجموع كفيلا بدخوله إلى سجن الطب.. نعم كان بالنسبة له سجنا ليس أكثر. هذه الليلة راوده حلم غريب .. كان يحلم بكل أحلامه، ها هو يرى نفسه طفلا يلعب ببالونته الطائرة فى البيت.. نعم هذه المرة لم يفلتها وذهب بها للمنزل ولكن ما هذا؟ ما الذى يفعله بها ؟ ظن فى البداية أنه أخطأ الرؤية ولكن لا هذا الطفل يفرغ البالونة من الهواء.. أليست هذه هى بالونة أحلامه، هل فعلا كان سيفعل بها هذا إن أخذها للمنزل يومها، إذا فحمدا لله أنه ترك حلمه يطير يومها عن أن يفرغ حلمه بيده.. ها هو أيضا يزور والده مساء الجمعة ومعه الساندويتش ولكن الطبيب أخبره أن تناول والده لمثل هذا الساندويتش بمثابة الحكم بالإعدام عليه فجهازه الهضمى متوقف عن العمل منذ يومين ويحصل على احتياجاته الغذائية عن طريق المحاليل. إذا فقد عاش كل تلك السنوات الماضية يؤنب نفسه على فعل لم يكن ليتم حتى وإن قام به؟؟ بعد أن طال به الحلم كثيرا بدأ يقاومه فيجب عليه الاستيقاظ الآن ليذهب إلى عمله فاليوم أول يوم له كمدير طبى فى أكبر مستشفى فى مصر وكيف يتأخر عن الذهاب، واليوم هو أهم يوم له فى تلك الحياة حتى الآن فأخيرا حقق حلمه وترك عمله كجراح ليذهب إلى مجال الإدارة الذى طالما حلم به، اليوم سيكافئ نفسه على كل هذا الصبر والتضحيات التى قام بها ليصل إلى هذا المنصب. بالتأكيد ستكون الأيام القادمة أجمل كثيرا مما مضى. كل ما يحتاجه هو أن يستيقظ من هذا الحلم الطويل، نعم ليس هذا الحلم بالحلم الجميل فقد كشف أمامه كل الحقائق وكأنه يعكر صفو ليلته المرتقبة. أخيرا بدأ الحلم فى التشوش داخل عقله بالتأكيد هو ينتهى الآن . دقائق ويستيقظ ليعيش كل أحلامه المؤجلة وليصالح نفسه لما شق عليها من العتاب فى كثير من الأمور طيلة حياته، نعم لم تكن أبدا المشكلة فى القدر إنما هو من عاش طيلة عمره يؤجل الأشياء بعد الأشياء. كان الخوف هو العامل الأساسى المتحكم فى قراراته وأيامه. الآن وعد نفسه بأنه لن يخاف ثانية . لن يؤجل الأحلام ولن يترك داخله حلما جديدا لا يحققه . لن يترك يوما جميل إلا وعاشه ..لن يعاقب نفسه على مواقف تمت بفعل القدر.. لن يقسوا على أحلامه ثانية.. نعم سيفعل بالتأكيد. تشوشت الأحلام أكثر. ثم تشوشت الوعود وسرى بجسده برودة لم يعهدها وبدأت أنفاسه فى الهدوء وبدأ الخوف يلوح من بعيد مرة أخرى ليكسر له كل الوعود. ثم سمع النداء .. نداء يخبره بأن يتنازل عن وعوده وأحلامه فالأحلام متاحة قبل اللحظة الأخيرة فى الحياة.. أما تلك فقد كانت اللحظة الأخيرة.. لحظة يرحل هو فيها تاركا كل الأحلام وراءه.