أتخيل نفسى كهلا قد تخطى السبعين من عمره، يجلس إلى جواره حفيده يسأله عن ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتى وبطبيعة الحال لا يعلم عنها سوى ما يقرأه فى الكتاب المدرسى لمادة التاريخ أو ما يشاهده من صور أو أفلام وثائقية، سأقُص عليه شهادتى كشاهد عيان عاصر تلك الفترة الحرجة من عمر الوطن، ولكننى أخشى أن يكون قد درس كلاما مغايرا للحقيقة التى أقصها عليه، ويجد نفسه أمام خيارين، إمّا أن يتهمنى بالجنون أو تتوه منه الحقيقة. ومن هذا المنطلق سأسمح لنفسى أن أطرح عليكم سؤالاً غير تقليدى، قد تجده غريبا بعض الشىء ولكنه سؤال هام وحقيقى لا يشبه أسئلتنا العقيمة والتى نرددها يوميا. سؤالى وببساطة هو "من سيكتب التاريخ؟" دائما ما يقولون إن كاتب التاريخ هو المنتصر، أنه يكتب التاريخ من وجهة نظره أو من وجهة نظر تمجده وتجعله بطلاً على مر العصور فى أعين كل من يراجعوا حقبته الزمنية، أنه لا يكتب الحقيقة وإن فعل سيكتبها منقوصة من ما قد يعرضه للانتقاد. ولكى تتفهموا مقدار تخوفى، اسمحوا لى أن أعطى لكم مثال على ما أقوله، أنه الملك فاروق، تربينا على أنه سكير خائن يعشق النساء متكبرا مغرورا غير مكترث ببلاده، ثم نتفاجئ بمن يقولون إنه كان على عكس ذلك أو على الأقل لا تنتمى إليه الكثير من تلك الصفات، ومن هذا المنطلق أطرح عليكم هذه الأسئلة، من المسئول عن ذلك ومن الذى كتب هذا التاريخ ولماذا كتبه بتلك الطريقة، ومن المسئول عن تشويه تلك الحقيقة فى أذهاننا ؟. وها نحن اليوم منقسمون إلى فرق متناحرة لا ترى سوى وجهة نظرها فقط، غير معترفة إلا بما تعتقده، وهذا ما يجعلنى أطرح هذا السؤال متخوفًا من إجابته، أخشى أن يأتى اليوم وكل منكم يكتب كتاب تاريخ خاص به ونصبح أمة بلا تاريخ موثوق فيه، ننقسم إلى فرق، وكل فريق له تاريخ يتناسب مع معتقداته وآرائه، وتتوه الحقيقة فى زمن يفتقر إلى الحيادية والموضوعية. أمة بلا تاريخ هى أمة بلا حاضر أو مستقبل، فما بالك بأمة تمتلك تاريخا مشوها ملىء بالمغالطات، بالضرورة سينتج عن ذلك حاضرا مشوها ومستقبلا بلا ملامح، ما بُنى على باطل فهو باطل، وهذا يفسر لكم أسباب التخبط وعدم وضوح الرؤية التى نعيشها فى عصرنا الحالى. لا تدعوا الحقيقة تتوه وسط خلافاتكم، لا تتركوا الحقيقة تغرق بفعل أنانيتكم وكرهكم لتلك الحقيقة لمجرد أنها تتعارض مع أفكاركم، أكتب الحقيقة كما هى بلا رتوش ودع الحكم فى النهاية إلى الأجيال القادمة، فهى قادرة على النظر على عصرنا هذا من خارجه، قادرة على رؤية الصورة كاملة بدون أى مهاترات، قادرة على الحكم علينا إذ ما كنا قد نجحنا فى تأمين حياة كريمة لهم أم فشلنا، وأن فشلنا دعونا نكتسب احترامهم باعترافنا بالفشل وأن كان هذا الاعتراف اعترافا صعبا.