على جميع الركاب التوجه فورا إلى الطائرة... وبينما تأهب البعض لتلبية النداء بسرعة، كان هناك آخرون بالفعل قد وصلوا إلى باب الطائرة، ولا أعرف كيف وصلوا بهذه السرعة فيبدو أنهم تسلقوا الأسوار، أو لم يمروا على شباك الجوازات.. ولكن رأيت أناسا آخرين يتثاقلون وكأنهم مجبرون على السفر. ومنهم على سبيل المثال ذلك الرجل العجوز أبو أحمد وقد عرفت اسمه عندما نادته أم العيال واسمها بالبداهة أم أحمد... أما عمره فيبدو فى العقد السابع من عمره... ياللا قوم يا أبو أحمد الطيارة هتمشى وتسيبنا ... فيرد أبو أحمد بتمتمه وتردد وشىء من الخوف.. أنااا بقوول يا أم أحمد يعنى.. نخلينا وبلاش نطلع الطيارة دى.. مش عارف ليه مش مطمن وبعدين إحنا قاعدين وقافلين علينا بيتنا، ولا حد مضايقنا ولا مضايقين حد، والحمد لله مستورة ...فترد أم أحمد بلهجة يملؤها الأمل والطمع ... يا راجل قوم خلينا نسافر مع الناس الكباره دى..أنت غاوى فقر ياراجل طول عمرك كده..وبعدين عيالك سبقونا مش عايز تسافر معاهم ولا إية يا راجل .. فيقوم الرجل يمد قدم ويؤخر الأخرى ولسان حاله يقول يارب الطيارة ما تطلعش ولكن أبدا لا يجرؤ أن ينطق بهذا أمام هذا الحشد غير المسبوق المتلهف للسفر وركوب الطائره. وفى صالة كبار الزوار كان هناك ركاب من نوع آخر... تعرفهم من رائحة عطورهم وأنواع السيجار الفاخر، والآى باد الذى لا يفارق أيديهم كنوع من الفشخرة ليس إلا. وهؤلاء أيضا يتجهون للطائرة.. نعم نفس الطائرة التى يستقلها أم وأبو أحمد..يمشى السيد الوزير السابق والدكتور المناضل العالمى وقد تبادلوا الأحاديث فترة انتظارهم الطائرة .. يمشون بخطى ثابتة مبتسمين حيث إنهم يدركون أن كل الأعين تلاحقهم ولكن سرعان ما يظهر الضيق على السيد الوزير بعد أن سمع كلمات ضايقته من أحد المسافرين وهنا يتدخل آخرون للتهدئة.. ويستقلون الطائرة فى الدرجة الممتازة.. تنادى المنادية مرة أخرى .. نداء أخير ... على الكل التوجه إلى الطائرة الآن ... وبينما الكل يستعد للإقلاع كان الشيخ محمد على موعد مع القدر.. فقد استقل الطائرة فى اللحظة الأخيرة .. حيث إنه كان المفترض أن يسافر زميل له فى العمل لهذه المأمورية المكلف لها من جانب شركته ولكن زميله لم يستطع السفر فى اللحظات الأخيرة فقررت إدارة الشركة إرسال الشيخ محمد بدلا منه... يصعد الشيخ محمد فيجلس وسط الركاب فى الدرجة العادية بلا أى اهتمام من الركاب حيث انصب كل الاهتمام على السادة الأكابر فى الدرجة الممتازة ......... أغلقت الآن الأبواب ورفع السلم من تحت الطائرة.. وبدأ الكل يستعد للإقلاع ولكن .. ولكن هناك شيئا بسيطا حدث هو أن الطيار لم يحضر ... نعم لا يوجد طيار فقد حدث له مكروه... والآن ماذا يفعل الركاب.. بالطبع كان من الطبيعى التمهل والنزول والانتظار حتى يجدوا طيارا بديلا كفئا يقود الطائرة .. ولكن الغريب والشىء الذى لا يصدقه عقل، أن الركاب بالإجماع أصروا على إكمال الرحلة وقرروا أن يختاروا من بينهم أحدهم ليقود الطائرة.. وهنا تقدم الوزير السابق وقد بدت علامات الثقة على وجهه حيث قال أنا بالطبع أدراكم وأكثركم خبرة فقد أمضيت نصف عمرى فى الطائرات متجولا بين بلدان العالم... ولكن هنا تقدم الدكتور مقاطعا وقد اختفت كل مظاهر الود والنفاق بينهم .. قول كلام غير ده يا رجل ده أنت فشلت فى كل رحلاتك وكدت أن تسقط بالطائرة مرات عديدة... أنت فاكر الناس نسيت ولا إيه .. أنا لا يمكن أن أثق بك ... وهنا ينقسم الركاب بين مؤيد ومعارض ... وبينما احتدم الجدال نادت أم أحمد بصوت قادم من الريف معطر برائحة البرسيم...أنا مش هسافر إلا لو الشيخ محمد هو إللى ساق الطيارة دى ..ده راجل بركة والله .. وربنا لا يمكن يكسفه أبدا .. ده دعوة منه الطيارة تطلع وتوصل بالسلامة - ويبدأ النقاش وتسمع المؤيدين لكلام أم أحمد وكأنهم تائهون لا يعرفون تحديدا هل بالفعل حكاية البركة دى صح أم لا وهنا يبدأ الشيخ محمد بتلاوة بعض الآيات القرآنية ثم يصلى على الرسول ويبدأ فيقول لمن حوله يا جماعة المهم نوصل لبر الأمان أنا عايز إيه غير كده ده إحنا كلنا مزنوقين فى سجن _قصدى طيارة واحدة_ طبعا شيخنا كان كلامه كله موجهة للطبقة الكادحة إللى مسافرة عشان لقمة العيش .. أما الإخوة فى الفرست كلاس كانوا طبعا مازالوا بيتباحثوا ويدرسوا ويتناقشوا ولكنهم فوجئوا أن اللحظة الحاسمة قد حانت ....لحظة الاختيار .. وفى هذا التوقيت الشيخ محمد كان اكتسب ثقة الأغلبية الكادحة على متن الطائرة وفى الموعد كان ما كان ووقع الاختيار على الشيخ ليقود الطائرة .... ودون مقدمات وفى لحظة من لحظات الذهول اختلطت فيها كل المشاعر من خوف ورعب وفرحة وغضب وحمد لله ودعاء لله وبكاء وضحك وأمل ويأس نعم لقد كانت الطائرة عبارة عن مزيج من هذه الأحاسيس .... تقدم الشيخ محمد سريعا وقال للركاب فلنصل لله الىن جميعا كى ننهض بالطائرة إلى السماء ..... وبالطبع قام المناصرون يهللون ويكبرون ... وبينما نحن فى قمة الاستغراب والذهول قال لنا أحدهم ألا تكبرون.!!! إنه أول قائد طائرة يصلى قبل أن يقود طائرته !! ألا تكبرون... وحينها لم أتمالك أعصابى وقررت أن أحاول الفهم فلعلى مخطئ أو لعله يكون حلما أو كابوسا.. فقلت متسائلا للرجل ... بالطبع نكبر ونهلل ونبوس إيديه كمان بس هوه الشيخ هيعمل تيك أوف إمتى .. فنظر الرجل إلى نظرة اشمئزاز وكأنى قد أهنت أحد والديه..وقال لى ياراجل أنت مش شايف الراجل والدموع فى عنيه من خشية الله ..بطل بأه تسأل أسئلة لا هتجيب ولا هتودى ..أنت مش عايز تتنيل توصل.. هتوصل يا أخى اترزع أنت ومالكش دعوة باللى هيحصل ..مهو أمثالك هما سبب وقوع الطيارات والقطًورات ..... وهنا أدركت أن ما كنت أخشاه قد حدث.... فقررت الاستغاثه واقتربت من الشباك وصرخت الحقونا ولكن كان الوقت فات .. وهنا نصحنى من حولى بالتماسك ولعله خير ... وفى هذه الآونة كان ما زال الإخوة الأكابر فى الفرست كلاس يتباحثون ويختلفون ويعارضون وينددون ... ولكن يبدو أن الآيباد أصبح عديم الفائدة فقد تحركت الطائرة ....... ومعها تحرك قلبى خوفا ورعبا ليس على فقط ففى الطائرة رجال وشيوخ ونساء وأطفال فقراء وأغنياء وأغبياااااااء ..وهنا قررت التوجه إلى كبينة القيادة حتى يطمئن قلبى وما أن اقتربت حتى منعت بالقوة من الدخول ولكننى لمحت من على بعد الشيخ محمد محاطا بأشخاص آخرين يحاولون إقناع الركاب بأن الإقلاع تم بنجاح .... يا نهار أبيض ...نحن على وشك الموت... الطائرة ستتحطم لا محالة إن لم نقلع الآن ... هكذا صرخت بأعلى صوتى ..فكممونى وحبسونى فى غرفة داخل الطائرة.. سمعت من يقول فى المايك ...على جميع الركاب ربط حزام الأمان وعدم الالتفات إلى الشائعات فالطائرة قد بدأت بنجاح رحلتها المتجهة إلى ..المتجهة إلى ..إلى ... وهنا تلعثم الرجل وكذلك الركاب وأنا منهم .... يانهار أسوووووود هوه أحنا رايحين فين ..... وللحديث بقية.