أسند خالد حسين يده على كتف شقيقه وهو يحاول تركيب طرف صناعى جديد عبارة عن مخروط من الحديد والبلاستيك على شكل رجلٍ تمتد من الفخذ. فقد صُنع هذا المخروط ليعوِّض خالد رجله اليسرى التى بترت من فخذها، فى مغامرته حين كان يعافر خندقاً حفر على أرض رملية، بحثًا عن الذهب السطحى فى شمال السودان. كان حسين "الحاصل على بكالوريوس المحاسبة من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا"، يحرك يده مع الطرف الصناعى بارتباك واضح، ويتمتم بأسئلة متزاحمة، فى المستشفى الخاص بتركيب الأطراف الصناعية بالخرطوم، عن وزن المخروط، وما إذا كان يستطيع أن يلعب به كرة القدم التى يحبها، أو تسعفه فى معاودة العمل. ويحكى لمراسل "الأناضول" عن مغامرته التى انتزعت رجله من مكانها، قائلاً إنه غادر مسقط رأسه فى العاصمة مع ثلة من الشباب سمعوا عن وجود الذهب بكميات كبيرة فى صحراء بولاية نهر النيل، على بعد نحو 310 كم من الخرطوم. وحسين من بين مليون شخص قالت الحكومة السودانية إنهم يعملون فى مجال التنقيب العشوائى السطحى عن الذهب فى السودان، باستخدام معدات حفر تقليدية وأجهزة للكشف عن المعادن (GX4500)، أغلبها مصنوع فى الصين. وإلى حد كبير، يشبه هذا الجهاز المكنسة الكهربائية، حيث يحمله شخص، وهو يركب سماعة فى الرأس موصولة إلى الجهاز، ليسمع عند تمرير الجهاز على الأرض، أصواتًا تدل على وجود معدن الذهب. ويستخدم البسطاء من المنقبين المعاول الحديدية التى يسمونها: (الشاكوش، والكوريق، والفأس)، حيث تتناسب معهم من حيث السعر لكونها تصنع محليًّا. ويمضى حسين قائلاً: "ذهبت إلى مناطق التنقيب فى الولاية الشمالية، وقضيت أكثر من شهرين عام 2012؛ وجئت الآن تنقصنى رجل وأحمل صورة ذهنية سيئة عن الذهب.. ما وجدته فى تلك المناطق شىء يبعث على الرثاء، وليست ثمة ثراء ولا يحزنون". ويشير إلى وجود تجارة رائجة للمخدرات والسرقات، وانتشار محدود للواط؛ لأن بعض المنقبين لا تزيد أعمارهم على ال15عامًا، ويعملون إلى جانب أشخاص تزيد أعمارهم على الأربعين، ويقضى الجميع شهورًا عديدة فى وضع أشبه بالمعسكرات، على حد قوله. ويتحدث عن تردٍ كبير فى الأحوال الصحية وسط المنقبين؛ جراء استخدام الزئبق فى عملية التحليل، وعدم وجود المراكز الصحية، وإسعافات المصابين. وعن كيفية تعرضه لحادث بتر قدمه، يقول حسين إنه كان ينفض التراب ب(الكوريق) ويقتلع أحجارًا من داخل حفرة عمقها 3 أمتار، حفرت بشكل مائل، من أجل تكسيرها لاستخلاص الذهب، وكان 3 أشخاص آخرين يشاركونه فى العملية. وفجأة لامس حسين الحجر الخطأ فانهارت الحفرة وهو لا يزال بداخلها. ويكمل شقيقه الحديث قائلاً، إن حسين تضرر من عشوائية عملية إنقاذه؛ حيث تهشمت رجله اليسرى بمعول حاد أثناء محاولة انتشاله، واضطر الأطباء إلى بترها. فى ذات المكان، لقى 10 أشخاص حتفهم فى وقت سابق، نتيجة اختناقهم جراء نيران اندلعت داخل إحدى حفر التنقيب العشوائى عن الذهب فى منطقة قبقبة بمحلية أبوحمد فى ولاية نهر النيل شمالى السودان. وأرجعت السلطات المختصة أسباب الوفاة إلى إشعال المنقبين للنيران فى صخرة كبيرة داخل الحفرة من أجل تكسيرها لاستخلاص الذهب. وكانت السلطات المصرية قد أفرجت فى ديسمبر الماضى عن 113 سودانيًّا كانت احتجزتهم عند عبورهم إلى أراضيها، بحثًا عن الذهب. وفى إقليم دارفور، غربى السودان، يقول سامى الطيب، من سكان الإقليم، أن أهله نجوا من حرب تدور منذ 10 سنوات بين القوات الحكومية والجماعات المسلحة فى دارفور، لكنهم وقعوا ضحايا لعمليات التنقيب العشوائى عن الذهب. ويضيف أنه شاهد كيف يبتلع الموت إخوته ورفاقه فى سراديب رهيبة بينما هم كانوا يطمعون فى أن تكون هذه السراديب شرايين للحياة. وبعدها، هجر سامى هذه الحرفة، واختار بدلاً عنها تجارة الهواتف المحمولة فى العاصمة الخرطوم. وقد لقى 100 شخص حتفهم فى انهيار بئر للتنقيب عن الذهب الأسبوع الماضى فى منطقة جبل عامر بمحلية السريف فى ولاية شمال دارفور. وما يشجع أعدادًا كبيرة من المتعلمين وغير المتعلمين على المغامرة بأنفسهم فى رحلة البحث عن الذهب أن الحكومة تستهدف إنتاج نحو 50 طنًا من الذهب خلال عام 2013 بقيمة حوالى 2.5 مليار دولار، وتستعين على ذلك بشراء الذهب من المنقبين العشوائيين مباشرة. وقال وزير المعادن السودانى كمال عبد اللطيف، الخميس الماضى، إن 33 % من سكان السودان البالغ عددهم 32 مليوناً، مستفيدين من مجال التنقيب عن الذهب، الذى يرتاده مليون شخص. كما أن ارتفاع معدل البطالة يدفع بالكثيرين إلى التنقيب عن الذهب؛ حيث أفاد أحدث تقرير لوزارة العمل السودانية بأن نسبة البطالة بلغت 15.9%. وكانت منطقة جبل عامر قد شهدت قتالاً ضاريًا بين قبيلتى الرزيقات الأبالة والبنى حسين فى تنازع على ملكية منجم للتعدين العشوائى عن الذهب؛ مما أسفر عن نزوح أكثر من 120 ألف شخص عن قراهم بعد أن دمرت تمامًا. فى المقابل، احتفل قبل أيام إبراهيم محمد رانفى، أشهر المنقبين عن الذهب عشوائياً بسهل البطانة شرق الخرطوم، بوصول ثروته إلى 30 مليار جنيه سودانى (6.8 مليار دولار). رانفى بدا مزهوًا وهو يقول للصحفيين: "جدى أوصانى بالصبر على هذه الأرض البكماء، والآن تحول حال الأسرة 180 درجة بعد أن منحتنا هذه المنطقة خير باطنها". ويشارك موظفون حكوميون فى عمليات التنقيب العشوائى عن الذهب، حتى أن مدير عام شرطة ولاية نهر النيل حذّر من أن تفقد الشرطة عناصرها نتيجة توجههم لهذا المجال. ويقوم المنقبون العشوائيون باستخراج أحجار الكوارتيز وبعض الصخور الأخرى التى تحتوى على جزيئات الذهب، ثم تخضع تلك الأحجار إلى عملية تكسير حتى تتحول إلى أكوام من الحصى الصغير، وتعبأ فى جوالات يتم نقلها بعملية شاقة إلى مناطق تطحن فيها. بعدها يتم تفريغ الجوالات فى طُسُوت (أوانٍ معدنية كبيرة) تُغمر داخل أحواض مائية، وفى هذه المرحلة يضع المنقب الزئبق الأبيض على التراب المتبقى فى الطُسُوت حتى يتم فصل جزيئات الذهب عن التراب؛ حيث تستقر جزيئات الذهب داخل الطست. ويشير المختصون فى المواصفات والمقاييس إلى وجود تلوث ضخم ونفايات سامة فى كافة مناطق التعدين بالسودان، لا سيما فى ولايتى نهر النيل والشمالية بسبب الاستخدام العشوائى لمعدن الزئبق فى استخلاص الذهب. وبينما يقول حسين، وهو ينظر بسحرة إلى رجله المبتورة: "لا أنصح أحداً بالذهاب إلى هناك.. إلى الموت فى الانهيارات الأرضية أو الاختناق وانعدام الأكسجين"، فإن احتفال رانفى بملياراته يدير رؤوس الكثيرين.