لا أعرف ما هى العلاقة الخفية بين الإخوان المتأسلمين ومفهوم الثقافة بتفريعاته المختلفة فى الفكر الإنسانى، فالجماعة التى لا تعترف إلا بأحادية الرؤية ودس فوارق الأفراد فى هلامية المجموع، أو تُحمّل الجموع بتوجهات فردٍ قاصر الوعى، لم تقدم للفكر والإبداع طوال ثمانين عاما وأكثر إلا تجليات سيد قطب التكفيرية ومذكرات قياداتها المنثورة هنا وهناك والمتضاربة (لمن يتقن التحليل والتفنيد) مع قواعدهم التى يسمونها (أدبيات)، والتى لا علاقة لها بالأدب بمفهومه النظرى والتطبيقى اللهم إلا فى المصدر الاشتقاقى والتزيّد الفارغ. ولعل آخر مقالات الأستاذ محمود القاعود والمنشورة فى باب الرأى ب"اليوم السابع" لتنبئ وتفضح أن هذا الخواء التعبيرى والإبداعى لن ينضب من الجماعة ما امتد بها الوجود سراً وعلانيةً وربما سراً مرةً أخرى فى القريب، ولكنها ستكون آنذاك قد خسرت قناعها الذى تخفت خلف وداعته الخادعة لعقود وعقود، وظهرت على حقيقتها خاسرةً التعاطف مع نموذجها ضحيةً على كافة المستويات والمحافل والميادين. لقد افتتح السيد قاعود مقالته بجملةٍ من الأكاذيب التى اعتدناها فى الفترة الأخيرة من بنى جماعته، حينما أراد الحديث عن وزارة الثقافة المصرية فى الخمسين أو الستين سنة الأخيرة، منذ قيام ثورة يوليو وحتى بعد قيام ثورة 25 يناير، وبين الأكاذيب دس على طريقة (لا تقربوا الصلاة) مواقف وآراء ربما تعاطف معها بعض المهتمين، لولا أن النابهين منهم رأوها تدخلا فى باب (قالوا نشهد إنك لرسول الله).. فالسيد المحترم بدأ فى الانتقام من اليسار المصرى وتجربته فى إدارة وزارة الثقافة، ولا أدرى فى الحقيقة مَن يقصد سيادته بشخصيات اليسار إلا إذا كان يقصد فترة ما بعد ثورة يوليو مباشرةً (وما أدراك ما الستينيات!!)، فبداية من منتصف السبعينيات بدأ خروج اليسار المصرى من المشهد الرسمى تماما ليحل محله وزراء (تكنوقراط) ورجال دولة يرتبطون بالنظام الحاكم كان آخرهم بعد ثورة يناير المهندس محمد الصاوى الذى دفعت به جماعة الإخوان فى صفقةٍ مشبوهة مع حكومة الفريق شفيق، وخرج من الوزارة غير مأسوف عليه حتى وقتنا هذا. ولعل السيد المحترم لم يرغب إلا فى الانتقام من فترة الستينيات وتحديدا الدكتور ثروت عكاشة الذى شهدت الوزارة فى عهده إنجازات غير مسبوقة ما زلنا نراها جميعا حتى يومنا هذا. أما الافتئات الذى أراد به صاحب الرأى شحذ همم المتعصبين والجهّال فقد بلغ به مبلغاً يتجاوز الكذب إلى ما يعاقب عليه القانون من القدح والرمى بالبهتان والباطل، لولا أنه يعتقد أنه سيأوى إلى جبل يعصمه من الماء، وهو واهم فى اعتقاده لا محالة. فسيادته تحدث صراحة عن تلك الكتب التى تصدر عن الوزارة وعن رعايتها للإبداع قائلا بالنص: "أى إبداع فى التطاول على الله سبحانه وتعالى؟ أى ثقافة وطنية فى سب الأنبياء والصحابة وأمهات المؤمنين؟ أى إبداع فى الإقصاء والتهميش واحتكار جميع أنشطة الوزارة لصالح أُميين لا يُحسنون القراءة أو الكتابة؟ أى إبداع فى طبع ما تُسمِّى الأعمال الشعرية الكاملة لأشخاص لا يحسنون قراءة أحد أبيات الشعر"!!! ولعلى لا يجانبنى الصواب إذا طالبت سيادته بدلائل افتراءاته، فأين هى الكتب التى سبت الصحابة وازدرت الأديان وتعرضت للذات الإلهية، وما هى الأعمال الشعرية التى طُبعت لأشخاص لا يحسنون القراءة والكتابة، إلا إذا كان يقصد أعمال فؤاد حداد وصلاح جاهين وعفيفى مطر وفريد أبو سعدة وفتحى غانم وأدونيس وصلاح عبد الصبور وغيرهم العشرات بل المئات من العلامات الفارقة فى حركة الأدب العربى، بل ولعله لا يعلم شيئا عن سلسلة الذخائر وكتب التراث والآداب العالمية التى تطبعها هيئات الوزارة المختلفة كدار الكتب المصرية وهيئة الكتاب وقصور الثقافة والمركز القومى للترجمة. بل لعله يجهل تماما طبع آلاف الكتب الدينية والفكرية فى مختلف القطاعات منها فى الأعوام الأخيرة: "التقريب فى التفسير، وأسرار التنزيل، والمجددون فى الإسلام، وكتب الإمام محمد عبده، والفتوحات المكية وسيرة ابن هشام" وغيرها آلاف الكتب ولا أقول النسخ. وخيرا فعل السيد القاعود بحديثه عن ضرورة وجود وزير يحترم الإسلام ولا يتشدق ولا يتنطع بمقولات فارغة كبعض أولئك المنتمين للتيارات المتأسلمة، والتى لا تأخذ من الإسلام إلا قشوره ولا ترى فيه إلا وسيلة للوصول لغايات سلطوية تنزه عنها الإسلام بل والديانات السماوية كلها. أما الشخصيات التى طرحها سابقا السيد قاعود وأشار إليها فى مقالته، فلا أدرى بأية تعليل منطقى يرى جدارتها بتولى هذا المنصب الهام والمسئولية المرهقة، خلافاً لما يدعيه سيادته من التزامهم وتوجههم الإسلامي، ذلك التعليل الذى أضحى علةً فى جسد الإسلام والوطن والثورة، لولا بقية باقية من القابضين على جمر يقينهم بصبحٍ قريب. وأخيرا لا أظن ما أورده السيد القاعود عن المثقفين والمبدعين المصريين إذ يسفه كتاباتهم ويرى أنهم اكتفوا بإبداع أحاديث المقاهي، إلا سوء تقدير منه (إذا أحسنا التعبير)، خاصةً وأن سيادته تحديداً شخصية تقع على هامش السياق الثقافى مقارنةً بالشخصيات التى تحدث عنها فى مقالته، ولعلنى لا أعرف عنه إلا اعتقادى فى قرابته من أستاذنا الدكتور حلمى القاعود أو تشابه اسميهما على أكثر تقدير، مع البون الشاسع بينهما فى الأفكار والثقافة. وأخيرا أيها الكاتب الهمام إنك تتحدث عن الثقافة المصرية التى تضرب بجذورها لما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام، والتى تزدريها اليوم بقلة علمك بما قدمه أبناؤها من منجزات تند عن الحصر وتتأبى على التأطير، منها على الأقل دفاعهم عن حريتك وحق جماعتك فى الوجود والتعبير والدعوة، فى وقتٍ كنتم فيه تعدون العدة للالتفاف خلف الصفوف وطعن الجميع دونما استثناء فى ظهورهم، حتى أولئك الذين بذلوا كل غالٍ ونفيس من أجلكم خاصة ومن أجل الحرية والكرامة عامة، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلبٍ ينقلبون.