أمريكا والدول الأوربية التي تتطاول على ارض الكنانة بمواقف غامضة وملتبسة من ثورة 30 يونيو تدرك جيدا مدى خطورة ذلك عليها، فمصر دولة محورية مركزية وكان لها بحكم كونها رمانة ميزان العالم دورا كاسحا في دعم حركات التحرر بعد ثورة 23 يوليو 1952، وهو تاريخ ومجد قومى ليس صعبا عليها أن تستعيده الآن ومستقبلا. فبعد نجاح ثورة يوليو في طرد الجيش البريطاني من مصر، بدأت الثورة المصرية في دعم التحرر العربي على نطاق واسع ليتخلص بدوره من الاستعمار، حتى إن مصر أيدت حركات تحرر في أراضٍ تبعد عنها آلاف الأميال، وعرضت نفسها للانتقام من القوى الغربية التي أضرت بمصالحها وحطمت إمبراطورياتها. واكتسبت مصر زعامة عالمية على المستوى الأفريقي نتيجة لدورها في مساندة كفاح تلك الدول، وبدأ تأييد مصر لحركات التحرر الأفريقية بعد الثورة بفترة قصيرة، فعلى الصعيد العربي بدأت إذاعة صوت العرب في القيام بتأييد العناصر الوطنية في دول الشمال الأفريقي. وعندما قامت السلطات الفرنسية بإلقاء القبض على الملك "محمد الخامس" في أغسطس 1953 ونفيه إلى جزيرة كورسيكا، كثفت مصر من تأييدها النضال الشعبي في المغرب وبقية الشمال الأفريقي، وتم عقد اجتماع تمهيدي يضم كل قيادات الأحزاب بشمال أفريقيا عن طريق الجامعة العربية لدراسة أسلوب توحيد الجهود السياسية، وتم تشكيل لجنة تحرير المغرب العربي. وإزاء ذلك اتخذ الرئيس عبد الناصر قراره بدعم حركة النضال المسلح في الجزائر وتم إخبار "بن بيلا" بذلك على أن يتصل بقيادة المناضلين المغاربة- حسبما ذكر الباحث الدكتور وائل إبراهيم الدسوقي المتخصص في التاريخ الحديث والمعاصر- وشهدت الفترة التي تلت مؤتمر باندونج في سنة 1955 وفشل العدوان الثلاثي في أواخر 1956 استقلال عدد كبير من الدول الأفريقية. ورأت حكومة الثورة أن تبدأ بالسودان، فتقدمت بمذكرة للحكومة البريطانية من أجل تمكين السودانيين من ممارسة الحكم الذاتي الكامل، وتصفية الإدارة الثنائية (بفترة انتقالية)، مع إجراء استفتاء حتى يقرر الشعب السوداني مصير بلاده. وفي 31 ديسمبر 1955 أقر البرلمان السوداني الدستور السوداني الجديد، وأصبح نافذًا من يناير 1956. وفي 1957 استقلت غانا وفي 1960 استقلت نيجيريا، واستقلت تونس والمغرب عام 1956، وانفصلت غينيا عن الاتحاد الفرنسي عام 1958، ثم السنغال عام 1960. وعلى صعيد دول أفريقيا العربية فقد دعمت مصر استقلال ليبيا وتونس والمغرب، وتحررت أراضى ليبيا وتونس من القواعد العسكرية. وعندما ثارت مشاكل الحدود بين الجزائر والمغرب أرسلت مصر خطابًا للملك الحسن الثاني يطالبه بتغليب صوت العقل. وبالنسبة لتونس، فقد قامت الثورة بدعم الكفاح التونسي إعلاميًا عن طريق الإذاعة والصحافة المصرية، كما قامت بتدريب 200 مناضل بمعسكرات الحرس الوطني وإعدادهم للنضال المسلح، وترحيلهم لطرابلس ليتم تزويدهم بالسلاح ثم عودتهم لتونس. أما الجزائر، فقد اعترفت مصر بحكومتها الوطنية المؤقتة برئاسة "عباس فرحات" رئيسًا للوزراء – و"بن بيلا" نائبًا لرئيس الوزراء، وفتحت أبوابها للمناضلين، ولهذا السبب أيضًا اشتركت فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر في سنة 1956 بعد أن جاء "كريستيان بينو" وزير خارجية فرنسا إلى القاهرة ليقنع عبد الناصر بالتوقف عن تأييد الثورة الجزائرية مقابل مساعدة فرنسا للعرب في سياستهم، وكان رد عبد الناصر قاطعًا: "إن تتخلى مصر عن الجزائريين يعني أن أتخلى عن قوميتي العربية"، وغادر "بينو" مصر وقد علم أن التخلص من "عبد الناصر" يساوي عنده الحفاظ على الجزائر كمستعمرة فرنسية. ولم تقتصر المساعدات المصرية للجزائر على الأسلحة فقط،، حيث تم إمداد "أحمد بن بيلا" بالأموال لتوفير أكبر كمية من السلاح، وطالبت مصر بدعم الكفاح وتوسيع جبهة القتال دون النظر إلى التكاليف والأموال التي يحتاجها ثوار الجزائر، وقام عبد الناصر بتوضيح الموقف المصري المهادن ظاهريًا مع الحكومة الفرنسية، بهدف الحصول على صفقة الأسلحة الفرنسية التي سيكون للمجاهدين الجزائريين نصيب رئيسي منها، وكان للجزائر أيضا نصيب من صفقة الأسلحة التشيكية. وعلى الرغم من محاولات مصر لحل قضية الجزائر في المحافل الدولية سلميًا، فإن فرنسا ظلت متمسكة بأن الجزائر جزء من الأراضي الفرنسية، ورفضت عرض القضية على الأممالمتحدة، فدخلت الجزائر في حرب دامية تساندها مصر إلى أن اضطرت فرنسا للاعتراف باستقلالها في معاهدة إيفيان (مارس 1961). ومن المواقف الطريفة، أنه بعد استتباب الأمور لبن بيلا دعا الرئيس عبد الناصر لزيارة الجزائر، وقام فعلا بزيارتها في 4 مايو 1963 وأثناء استقبال الجماهير الحاشد له بالجزائر، لم تتمكن السيارة المكشوفة التي استقلاها من اختراق الحشود فأمر بن بيلا بإحضار سيارة إطفاء ليعتليها الرئيسان. وفضلا عن حركات التحرر فقد حاربت مصر في معركة ضارية ضد الأحلاف العسكرية التي حاولت القوى الاستعمارية أن تفرض بها على المنطقة العربية سيطرتها، مثل حلف بغداد ومبدأ أيزنهاور. وفي الأردن وفي ديسمبر 1965 تم طرد الضباط الإنجليز من الجيش الأردني، وإلغاء المعاهدة البريطانية الأردنية والمعونة المالية التي كانت تستخدمها بريطانيا للتحكم في الأردن. أما العراق، فقد دعمت مصر ثورتها (ثورة 14 يوليو) التي تفجرت لتسقط حلف بغداد، ووضعت مصر كل إمكانياتها لدعم هذه الثورة. وفي اليمن، دعمت مصر الثورة اليمنية التي اندلعت في 26 سبتمبر 1962، وتسبب دعمها تلك الثورة في العديد من المواجهات مع المملكة السعودية والولايات المتحدة، ولكن ذلك الدعم ساعد الشعب العربي اليمني على أن يعبر من عصر التخلف والجهل والظلام إلى عصر النور والحضارة. وبعد الثورة المصرية قفزت قضية فلسطين لتحتل مكانًا أساسيًا في قائمة أهداف الثورة، وقامت منظمة التحرير الفلسطينية بدعم من مصر التي استمرت في تأييدها رغم أن هزيمة 1967 قد أضرت بالموقف التفاوضي الإستراتيجي للعرب والفلسطينيين. وبعد هزيمة 1967 لم تنس مصر أن فلسطين هي أصل قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وأعلن أن مصر تسعى لتحرير جميع الأراضي العربية المحتلة. وعن مساندة حركات التحرر في الدول غير العربية، فقد اتفق الرؤساء عبد الناصر، ونهرو، وسوكارنو على فكرة التضامن بين المناضلين من أجل الحرية وكان اتفاقهم هذا إعلانًا عن تضامن آسيا وأفريقيا في مواجهة المؤامرات ضد استقلال هذه الدول وتأكيدًا لوجوب تصفية الاستعمار. ويؤكد الدسوقي في ذلك الصدد أن الدور النشط الذي قامت به مصر في مساندة قضايا التحرر، كان وراء المؤامرات العديدة التي حاكتها الدول الكبرى لإضعاف مصر والعالم العربي، مثل مؤامرة العدوان الثلاثي في 1956 والعدوان المسلح على مصر والبلاد العربية في سنة 1967. الدكتور أحمد يوسف القرعي، الخبير بالشئون الأفريقية بالأهرام يقول: إن ثورة يوليو محطة رئيسية في حياة الشعب المصري، وتعبر بصدق عن حضارته وتطلعاته الدائمة لحياة أفضل، وعندما قامت الثورة كان هناك نظام دولي يقوم على الحرب الباردة، فحرصت الثورة على الإسهام في تصحيح مسار النظام الدولي الذي انبثق عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وأكد أن ثورة يوليو شعرت بأهمية مساندة حركات التحرر في العالم الثالث اتساقا مع مبادئها، باعتبار أن الحرية لا تتجزأ، فأقرت حق تقرير المصير للشعب السوداني الذي كان خاضعا للحكم المصري حتى عام 1953، كما ساندت حركات التحرر في القارات الثلاث: أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، واستضافت ثوار أفريقيا وقدمت لهم جميع أشكال الدعم والمساندة. ويؤكد القرعى أن تأييد ودعم مصر لحركة التحرر في الجزائر والشعوب العربية والأفريقية والآسيوية المتطلعة للتحرر والاستقلال كان أحد اهم أسباب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، مشيرًا إلى الدور الكبير الذي لعبته الجمعية الأفريقية بالقاهرة في تحرير الشعوب الأفريقية، التي أنشأتها مصر وخصصتها لإقامة كل زعماء حركات التحرر الأفريقية طوال سنوات نضالهم ضد الاستعمار- حسبما ذكر السفير أحمد حجاج رئيس الجمعية الأفريقية بالقاهرة- الأمر الذي لم ينسه كل الزعماء والرؤساء الأفارقة الذين يصرون على أن تكون زيارة مقر الجمعية ضمن برنامج زيارتهم لمصر، تقديرا منهم لدور مصر في تحرير الدول الأفريقية. وشهدت فترة حكم عبد الناصر صداما مع أمريكا والغرب، كان يرجع لإصرار أمريكا على طرح مشاريع وأفكار تتعلق بالدفاع عن الشرق الأوسط تراها مصر في غير مصلحتها وترفضها، خاصة أنها رأت أن المشاريع والأفكار الأمريكية حول الدفاع عن الشرق الأوسط هي استبدال للاستعمار التقليدي.