"لا أبالي إن كنت في جانب، والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجذع إن خذلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، ألا تصل هذه الرسالة إلى ما قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم..." هكذا تحدث المفكر الراحل "فرج فودة" في كتابه "قبل السقوط"، كتب ناصحا ومحذرا، ناصحا لكل من أراد "الخير لمصر" ومحذرا أرباب المصالح ومحترفى المزايدة – على حد قوله، فكانت النهاية بطلقات الرصاص، وسنوات سجن لقاتل لا يعرف شيئا عن المقتول إلا ما تناقله شيوخه الجهلاء فيما بينهم، وبعد مرور أكثر من عشرين عاما على رحيل "فودة"، لا يزال القاتل حيا، أما المقتول فلم تبق منه إلا الكلمات، والنبوءات التي صدقت جميعها وتحققت على أرض مصر. التاريخ: 8 يونيو 1992.. المكان: مكتب "فرج فودة" بشارع "أسما فهمي" الحدث: بينما كان يهم "فودة" بالخروج من مكتبه بصحبة ابنه الأصغر وأحد أصدقائه الساعة السادسة و45 دقيقة قام شخصان بينهما مطلق الرصاص من بندقية آلية بقتله فيما كانا يركبان دراجة نارية، فيما أصيب ابنه أحمد وصديقه إصابات طفيفة. أصيب فرج فودة بإصابات بالغة في الكبد والأمعاء، وظل بعدها الأطباء يحاولون طوال ست ساعات إنقاذه إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، ونجح سائق فرج فودة وأمين شرطة متواجد بالمكان في القبض على الجناة. في شهادة الشيخ محمد الغزالي أثناء محاكمة القاتل قال عن "فودة": مرتد وجب قتله، وأفتى بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا تجاوزا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة -حسب تعبيره. أما قاتل "فودة" فعندما سئل أثناء المحاكمة: - لماذا اغتلت فرج فودة ؟ - القاتل: لأنه كافر - من أي ما كتبه عرفت أنه كافر ؟ - القاتل: أنا لم أقرأ كتبه. - كيف ؟ - القاتل:أنا لا أقرأ ولا أكتب الرصاصة التي قتلت "فودة" لم تكن تلك التي وجهت له أمام مكتبه ولكنها كانت الكلمة التي أطلقها شيوخ حركة الجهاد وعلى رأسهم الشيخ عمر عبد الرحمن المسجون حاليا في أحد السجون الأمريكية، حيث أفتى الأخير بوجوب قتل "فودة" لأنه "مرتد" وخارج عن الملة، فما كان من القاتل إلا أن نفذ الأمر. ويبدو أن شعور الرحيل – قتلا- لم يغب عن خاطر "فودة" وهو ما أوضحته غالبية المقدمات التي أوردها في مؤلفاته ولعل أشهرها مقدمة كتاب "الإرهاب" التي جاء فيها: إذا كان المقصود أن نتراجع فقد طلبوا المستحيل، وإذا كان المستهدف أن نخاف فقد ضلوا السبيل، وإذا كان المطلوب أن نغمد القلم فقد أخطأوا رقم الهاتف، وليس في الأمر شجاعة منا بقدر ما فيه من منطق، فالموت أهنأ كثيرًا من العيش في ظل فكرهم العييّ، وحكمهم العتيّ، ومنطقهم الغبيّ، وأن يفقد الواحد منا حياته وهو يدافع عن وحدة الوطن، أشرف كثيرًا من أن يعيش في وطن ممزق". الموت على يد إرهابى وبفتوى من شيخ إرهابى لم تمنع "فودة" قبل رحيله بأن يكون واحدا من "مبشرى" ثورة 25 يناير، حيث قال منذ سنوات طويلة: تبدأ الدائرة المفرغة في دورتها المفرغة، ففي غياب المعارضة المدنية، سوف يؤدي الحكم العسكري إلى السلطة الدينية ولن ينتزع السلطة الدينية من موقعها إلا الانقلاب العسكري الذي يسلم الأمور بدوره بعد زمن يطول أو يقصر إلى سلطة دينية جديدة. الدائرة المفرغة التي تحدث عنها "فودة" قبل سنوات قليلة من رحيله لم تكن مجرد تحليل سياسي مبتكر للأزمة السياسية التي تعانى منها مصر، بقدر ما كانت "نبوءة" لما ستؤول إليه الأحداث في مصر خلال النصف الأول من الألفية الثالثة وتحديدا فيما بين 2011 و2013، فخلال العامين الماضيين تحققت "نبوءة فودة" كما قالها، والمعطيات الحالية تؤكد أن احتمالية تكرارها كبيرة جدا لدرجة لا يمكن تجاهلها، فبعدما استطاعت ثورة «25 يناير» الإطاحة بنظام "مبارك" وجد الثوار أنفسهم محاصرين بين ثلاثة اختيارات لا رابع لها، إما استكمال المسيرة مع "العسكر" أو اللجوء لرموز النظام القديم الذي ثاروا ضدهم، أو اختيار أقل الأضرار بالتحالف مع أكبر فصيل إسلامى في مصر، وكانت البداية صفقة والنهاية ثورة، وتحققت للمرة الثانية كلمات "فودة" فيما يتعلق بالحلقة المفرغة، حيث ثارت مصر للمرة الثانية على رموز التيار الإسلامى وعزلت الرئيس الإخوانى محمد مرسي .