في كتابه "مع الناس"، كتب الأديب على الطنطاوي (أديب وقاضٍ وفقيه سوري، ولد عام 1909، ورحل 1999)، يقول: "تقابلت في نفسي صورتان لرمضان.. رمضان الثقيل الذي قدم يحمل الجوع والعطش.. أمامك الطعام فلا تستطيع أن تأكله، والماء بين يديك ولكنه لا يمكنك شربه، وتكون في أمتع نومة فيأتي رمضان ليوقظك لتأكل في جوف الليل وأنت تؤثر النوم. ورمضان الجو الجميل الذي يقوم فيه الناس في هدآت الأسحار وسكنات الليل حين يرق الأفق، وتزهو النجوم ويصفو الكون، ويتجلى الله على الوجود يعرض كنوز فضله على الناس، ويفتح لهم باب رحمته، يقول جل وعلا: "ألا من مستغفر فأغفر له؟! ألا من سائل فأعطيه؟!". وتتصل القوب بالله فتحس بلذة لا تعدل لذاذات الدنيا كلها ذرة واحدة منها، ثم يسمعون صوت المؤذن يمشي في جنبات الفضاء ينادي: "الصلاة خير من النوم"، فيقومون إلى الصلاة يقفون بين أيدي مصرف الأكوان يناجون الرحمن الرحيم فيسري الإيمان في كل جنان، ويجري التسبيح على كل لسان، وتنزل الرحمة كل مكان. هذا هو رمضان الذي تتحقق فيه معاني الإنسانية والمساواة بين الناس، ويشترك فيه الناس جميعهم في الجوع والشبع، ويعلم الجميع حين يجلسون إلى مائدة الإفطار أن الجوع يسوي المطاعم كلها "القوزي" و"النمورة"، أي الكنافة وصحن الفول المدمس وقطعة الجرداق -أي العيش الجاف-، ويغدو الناس كأنهم إخوة في أسرة واحدة. هذه هي صورة رمضان الحلوة.. وهذا هو رمضان.. فإذا أردتم أن تصوموا حقًّا فصوموا عن الأحقاد والمآثم والشرور، كفوا فيه لسانكم عن اللغو، وغضوا أبصاركم عن الحرام، واعلموا أن من الصائمين من ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.. ذلك الذي يترك الطعام، ويأكل بالغيبة لحوم إخوته، ويكفُّ عن الشراب، ولكنه لايكفُّ عن الكذب والغش والعدوان على الناس، وقد سأل رسولُ الله أصحابه: "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". ايها الصائمون؛ إن رمضان شهر الحب والوئام فكونوا أوسع صدرًا وأندى لسانًا وأبعد عن المخاصمة والشرِّ، وإذا رأيتم من نسائكم ذلة في رمضان فاحتملوها، وإذا وجدتم إساءة من إخوانكم فاصبروا عليها، وإذا بادأكم أحد بالخصام فلا تقابلوه بمثله، بل ليقل أحدكم إني صائم، إني صائم. وإذا خفتم الجوع الاختياري فاذكروا من يتجرع الجوع الإجباري، واشكروا على نعمة ربكم، وليس الشكر أن ترددوا باللسان: "الحمد لله.. الحمد لله"، ولكن شكر الغني بالبذل للفقراء وشكر القوى بإسعاد الضعفاء.. وأعطوا من نفوسكم كما تعطوا من أموالكم، فرب بسمة مع العطاء تنعش السائل أكثر من العطاء. جربوا هذه العطية في رمضان.. خذوا من الصحة لأجسامكم والسمو لأرواحكم والعظمة لنفوسكم والبذل والفضل. رمضان الذي تشيع فيه جلائل الخير، ويعم الحب والوئام، فإذا أردتم أن تصوموا حقًّا فادفعوا بالتي هي أحسن.