كان صباحا عاديا، البائعون يهرولون إلى محلاتهم بشارع المعز، ينظمون البضاعة، ويمسحون عنها أثار الأتربة، إلا أن وكالة العنبريين التي خلت على عروشها من البائعين في انتظار مصيرها الذي تقرر مسبقا، عدا بائع عطور عجوز قرر فرش بضاعته، والتمسك بمحله الصغير، مصدر رزقه الذي قضي فيه زمنا أكثر من بيته. بدأت أزمة "العنبريين" كما يروي أصحاب المحال المجاورة عام 2005، عندما نشب حريق نتيجة ماس كهربي، وبفعل المواد المستخدمة في تحضير العطور، كادت أن تلتهم النيران الوكالة بأكملها، لولا عناية الله التي أنقذت نحو نصف المحال. رحلة طويلة خاضها التجار منذ ذلك الحين، قصدوا كافة الجهات المعنية، وطرقوا كل الأبواب المتاحة لطلب المساعدة في ترميم أركان الوكالة وإنقاذها من الهدم وقطع أرزاقهم، وكانت وزارة الآثار أول من رفض المساعدة بدعوى أن "العنبريين" ليست مدرجة ضمن الآثار، والميزانية لا تسمح بتحمل تكلفة إصلاح مبني لا يتبع لهم، وجاء رد وزارة الثقافة والحي لا يختلف كثيرا عن "الآثار"، فلم يتبق أمام التجار إلا اللجوء إلى ساحات القضاء. رغم احتراق أجزاء كبيرة من الوكالة إلا أن روائح العطور الفواحة غطت بعناد على رائحة الحريق المنبعثة من جدرانها، فأعاد التجار فتح محلاتهم وتعايشوا مع الأزمة، على أمل أن يجدوا في نهاية صبرهم على حبال المحاكم الطويلة ما يعوض الخسائر. "أرض الوكالة اتباعت لشركة كبيرة والمالك الجديد راضى أصحاب المحال"، همس بها صاحب محل مشغولات ذهبية بالمنطقة، مراعاة لمشاعر زملائه، فالكل في حالة حزن كأنهم فقدوا عزيز، لم يكن يتوقع أحد أن تتحول الجدران التي وضعت لبناتها الأولى في عصر الدولة الفاطمية إلى تراب بفعل الجرافات، ورغم انتهاء المشكلة مع ملاك المحال بالوكالة، إلا أن المستأجرين خرجوا من تلك الصفقة بلا شيء، فضلا عن خسارتهم أحد أهم المواقع السياحية في القاهرة الفاطمية، حسرة دفعت بائع عجوز صباح يوم الهدم، لعدم المغادرة وتمسكه بالمكوث داخل محله، لولا تدخل البائعين لإثنائه عن عناده، وتطيب خاطره، فما كان منه إلا أن لملم بضاعته، وخرج مكرها من الوكالة يراقب بقلب كسير الجرافات تزيل جدارها بلا رحمة. أما عن الملاك السابقين في "العنبريين" فالوضع مختلف، حيث يرى بعضهم أن تلك نتيجة حتمية للأمر، حيث قال أحدهم: "كده كده كانت لازم تقع لأنها مبنية بالطوب الرملي، وإحنا حاولنا نلجأ للإعلام السنين اللى فاتت لكن محدش ساعدنا في ضغطنا على الوزارة لترميمها"، وعن مصير الأرض قال: "محدش متأكد لسه بس الوضع بيقول إنها هتبقا مول تجاري فخم يباع المحل به بالملايين". وكان محمد عبد العزيز المشرف العام على مشروع القاهرة التاريخية بوزارة الآثار، أكد أن تسجيل الآثار الإسلامية في مصر بالكامل أجرتها لجنة حفظ الآثار العربية القديمة، التي أنشأها الخديو توفيق عام 1881 وانتهى عملها عام 1961، واستمرت 70 عاما. وأضاف عبدالعزيز أن الوكالة كانت موجودة وقتها وحالتها الإنشائية أفضل من الآن لكنها لم تسجلها رغم تسجيل الآثار الإسلامية الأخرى وقتها ولا نعرف ما السبب حتى الآن. وأوضح عبد العزيز أن العقار رقم 88 بشارع المعز، والذي يجري هدمه الآن غير أثري وليس مسجلًا في تعداد الآثار المصرية، ويعرف العقار رقم 88 سابقًا، رقم 84 حاليًا، ب"وكالة العنبريين"، ويرجع للقرن التاسع عشر، وأنشأ المبنى السلطان قلاوون كي يكون سجنًا، ثم حوله العثمانيون لوكالة لصانعي العطور، ومن هنا جاء اسم "وكالة العنبريين". وأوضح عبدالعزيز أن اتهام الوزارة بعدم الفهم وأنها مدمرة للحضارة وكارهة لها أمر غير منطقي على الإطلاق، لافتا إلى أن عدم تسجيلها الآن من قبل وزارة الآثار يرجع إلى أنها أصبحت أنقاضًا لا تصلح للتسجيل، قائلا: "نحن نسجل المبنى والتاريخ في الكتب، أين المبنى الذي نسجله"، موضحا أنه اجتمع مع المستأجرين مرات عديدة وقادوا حملة لعدم الهدم لأهداف شخصية.