عانت الأمة الإسلامية والعربية – وما زالت - على مر تاريخها من المفاهيم المغلوطة التي أسهمت بشكل كبير ومباشر في انتشار التطرف والإرهاب، وتكمن خطورة هذه المفاهيم في أنها تلبس الحق بالباطل، ويكتم أصحابها الحق وهم يعلمون. وقد ترتب على هذه المفاهيم استهداف النفوس وإزهاق الأرواح بدون حق من قِبل بعض المتطرفين الذين ليس لهم حظ من العلم والدين، ومن ثم أخذ الأزهر الشريف – بقيادته الرشيدة – على عاتقه تصحيح هذه المفاهيم؛ انطلاقًا من مسئولية الأمانة التي تحملها، وإسهامًا منه في الحد من انتشار هذه المفاهيم والمآلات السيئة المترتبة عليها، فكرس جهوده العظيمة المباركة في السنوات الماضية لمواجهة هذه المفاهيم الخاطئة، فعقد المؤتمرات العلمية الدولية، وأقام الندوات التثقيفية، وألف البحوث الجادة، والمقالات المتعددة والمتتابعة. وأنشأ الهيئات العلمية والمجتمعية العالمية المتعددة والتي في مقدمتها: "مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوى الإلكترونية" من أجل نشر صحيح الدين ومحاربة التطرف والفهم الخاطئ للشريعة ونصوصها. وجدير بالذكر أن فضيلة الإمام الأكبر لا يترك فرصة سانحة إلا ويصحح فيها كثيرًا من المفاهيم المغلوطة التي أسهمت في نشر التطرف والإرهاب في العالم، ومن بين هذه المفاهيم التي يحرص دائمًا على تصحيحها مفهوم "الأقليات"، فهو يرفض استعمال هذا المفهوم بشكل قاطع، ويرى أن فيه شيئًا من الإهانة لإخوتنا المسيحيين شركاء الوطن وإخوة الإنسانية، ويستبدل هذا المفهوم بالمواطنة والمواطنين. ومما يؤكد ذلك أنه قد انتهز فرصة مشاهدة العالم أجمع لمؤتمر "الأخوة الإنسانية" في أبوظبي، فحرص على أن ينادى من خلاله الإخوة المسيحيين قائلًا: أقول لإخوتي المسيحيين في الشرق: أنتم جزء من هذه الأمة، وأنتم مواطنون، ولستم أقلية، وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقلية الكريه، فأنتم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، واعلموا أن وحدتنا هي الصخرة الوحيدة التي تتحطم عليها المؤامرات التي لا تفرق بين مسيحي ومسلم. وتأتي "وثيقة الأخوة الإنسانية" تؤكد على ضرورة تصحيح المفاهيم المغلوطة، فتقول: "أن مفهوم المواطنة يقوم على المساواة في الواجبات والحقوق التي ينعم في ظلالها الجميع بالعدل. لذا يجب العمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة في مجتمعاتنا، والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح "الأقليات" الذي يحمل في طياته الإحساس بالعزلة والدونية، ويمهد لبذور الفتن والشقاق، ويصادر على استحقاقات وحقوق بعض المواطنين الدينية والمدنية، ويؤدي إلى ممارسة التمييز ضدهم". وإذا نظرنا إلى هذا النص الدقيق نظرة شرعية نجد أنه يتفق ونصوص الشريعة الإسلامية ومقاصدها، وإذا أمعنا النظر في السنة النبوية والسيرة المحمدية لم نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخدم مفهوم الأقليات أبدًا، وإنما كان ينظر إلى غير المسلمين دائمًا على أنهم والمؤمنين أمة واحدة، وإنهم إخوة في الإنسانية، وشركاء في الوطن، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين من الحقوق والواجبات، ويؤيد كلامنا هذا ما جاء في "صحيفة المدينة" المباركة التي تُعد أول دستور مدني في تاريخ البشرية، وقد غدت مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومعلمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني. فقد اعتبرت "وثيقة المدينة" كل مكونات المجتمع المدني بعد الهجرة إليها أمة واحدة، فلم تفرق في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغيرهم، وقد أكدت على أن حق العدل والأمن والحرية والتناصر والتعاون، والحقوق الإنسانية والاجتماعية مكفولة لكل فرد من أفراد المجتمع، فقد جاء فيها: "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" وكذلك باقي يهود المدينة، وإنك قد تلاحظ هنا استخدام النبي صلى الله عليه وسلم مصطلح الأمة، ولم يستخدم غيره من المفاهيم والمصطلحات، وذلك للمساواة بين الجميع في الحقوق والمواطنة. إن الإسلام بريء من هذه المفاهيم التي تبذر بذور التطرف والإرهاب، وتؤدي إلى الشقاق والخلاف والصراع بين أفراد المجتمع، وهذا ما ينادي به الأزهر الشريف دائمًا ويؤكد عليه أبدًا.