تحولات العالم العربى خالطتها الدماء والمصاعب، على خلاف الثورات الأجنبية، ربما كان ذلك الفارق الأكبر بين ثورات الربيع العربى ونظيراتها فى دول أوربا الشرقية بعد العام 1989 والدول الأمريكية اللاتينية فى ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين. فمعظم دول الشرق الأوسط كانت تفتقر إلى تاريخ طويل من الوحدة السياسية، حيث أقيمت منذ أمد قريب نسبيا، فحدودها مصطنعة وشعوبها منقسمة طائفيا وعرقيا فضلا عن الخطوط الإقليمية، إضافة إلى غياب الإجماع حول القضايا الرئيسية الأساسية فى العالم العربى. كشف 2012 عن مدى قوة الصراعات العقائدية والمجتمعات المنقسمة مما أوجد إخفاقات طغت على الصورة الوردية للربيع العربى التى مازالت تلوح بقوة فى العام 2013. فهناك بعض الدول العربية التى عانت دائما من حكومات ضعيفة وبطرق مختلفة، ففى اليمن كان السبب وراء ذلك هو قلة المصادر، أما فى ليبيا فالسبب كان معمر القذافى، فكانت البلاد ضحية تجاربه السياسية المتنوعة فى الحكم المباشر، وعادة تكون عواقب ضعف الدولة تعزيزا للقبلية والطائفية وكيانات شبيهة بالدول وتلاشى حكم القانون. وتعانى سوريا حاليا نفس المصير، فقد أتت عليها الحرب الأهلية والانشقاقات والضعف الاقتصادى، وهذا أمر ليس بغريب على سوريا التى كانت نموذجا لعدم الاستقرار السياسى العربى، وهى التى شهدت تسعة انقلابات عسكرية فى الفترة من 1949 حتى 1970. ومع انهيار الدولة السورية حاليا بات السوريون يبحثون عن سلامتهم ضمن طوائفهم وليس عن طريق الدولة، هذا إن لم يفروا من البلاد. كما أن الانشقاقات الطائفية والقبلية والإقليمية أبطأت حركة التقدم السياسى، وهذه الهويات التى تشكل كيانات دون مستوى الدولة تخلق دوائر شريرة فى الدول الضعيفة، فحتى الحكومات الجديدة التى جاءت عن طريق الانتخاب الحر تجد صعوبة فى ممارسة دورها فى الحكم وهى لا تمتلك أذرعا وكوادر لتنفيذ سياستها. فليبيا على سبيل المثال ناضلت من أجل بناء قوة شرطية وجيش فى مواجهة المليشيات والتى كانت فى العديد من الحالات أفضل تسليحا من الجيش والشرطة التابعة للدولة، أما فى اليمن فقد تفرق الجيش بناء على خطوط طائفية، ومع ضعف القوة المركزية لتلك الدول باتت مسرحا للتنافس الإقليمى، فالأطراف المحلية تستنجد بالأجانب ودول الإقليم القوية من أجل المال والسلاح والدعم السياسى. فى المقابل فإن مصر وتونس لا تعانيان حكومات ضعيفة، وعليه فهما يمثلان أفضل الفرص لكل دول الربيع العربى لتشكيل ديمقراطيات مستقرة رغم ما شهده العام 2012 من معارك ونزاعات حول مستقبل تلك الدولتين، ولكنها كانت معارك سياسية وانتخابية وكلامية فى غالبها رغم حدوث مظاهر عنف فى كلتا الدولتين. والسؤال الرئيسى هو حول دور الإسلام فى النظام الجديد، وحتى حينه فإن الغلبة للإسلاميين، ومع أن صياغة دستور جديد فى تونس ومصر أدى إلى استقطاب المجتمع، فقد أبرزت نتائج الانتخابات أن اليد العليا فيهما فى كتابة الدستور هى للإسلاميين، وهو ما يعارضه العلمانيون وبعض الليبراليين والمتعاطفين مع النظامين الديكتاتوريين السابقين دون أن تكون لديهم القدرة لحشد جماهيرى للوقوف أمام مشاريع الإسلاميين الدستورية. ورغم زيادة الغليان فى كل من مصر وتونس، إلا أننى أستبعد أن تتحول مصر وتونس إلى نظام إيران أو السعودية، فدستوراهما يوفران للأنظمة الديمقراطية الحرية الدينية والحريات الشخصية، وذلك مع إقرارى بأن السلفيين سيؤثرون على مستقبل الانتقال السياسى عبر العالم العربى، خصوصا أنهم دأبوا على معارضة السياسات الديمقراطية باعتبارها بدعة غربية تتعارض مع الشريعة، وهو ما جعل كثيرين فى الدول الغربية يتساءلون عما إذا كان بالإمكان جلب السلفيين إلى مركب المستقبل الديمقراطى أم لا، وإذا أردنا أن نكون صرحاء، فإن كانت مفاتيح التطور الديمقراطى والاستقرار فى العالم العربى تكمن فى حوار أيديولوجى مع الحركات الإسلامية، فعندها لن يكون هناك دور لأمريكا لمساعدة هذه العمليات، فقد كشفت أمريكا من خلال تدخلها فى العراق أنها ماهرة فى تدمير البلدان أكثر من مساعدتها، وحتى لو رغبت الولاياتالمتحدة فى التدخل فإن تشتت قواتنا وانحسار مصادرنا يوجب علينا عدم التدخل فى هذه المنطقة، فأمريكا غير قادرة على التوسط بين السلفيين والإخوان المسلمين بخصوص مستقبل الديمقراطية، ولعل أوضح مثال لعجز الولاياتالمتحدة عن التأثير على التطورات السياسية فى العالم العربى هو الوضع السورى، وأفضل ما يمكن لأمريكا أن تفعله هو السماح للربيع العربى بالعمل بناء على قناعاته، وبالتالى فإن أفضل ما ننصح به إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما هو الاستمرار بالنأى بنفسها عن هذه المنطقة المضطربة من العالم، وهذا أمر كاف للولايات المتحدة خاصة أن لديها علاقات جيدة مع أكبر قوة عسكرية فى المنطقة وهى إسرائيل ومع أغنى دولة عربية وهى السعودية ومع تركيا التى نجحت فى أن تكون طرفا ديمقراطيا وإسلاميا للاستقرار فى المنطقة أكثر من أى وقت آخر. يعمل جورجى جوز كأستاذ للعلوم السياسية فى جامعة فيرموت نقلاً عن مجلة فورين بوليسى