لسنوات طويلة عرفت الدراسات السياسية نظرية «الاستثناء العربى» للتعبير عن استعصاء هذه المنطقة من العالم على موجات التغيير الديمقراطى -ثورةً أو سلماً- تلك التى اجتاحت أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية. حتى آسيا الإسلامية عرفت التحول الديمقراطى، وإن بطريقتها الخاصة. منذ عامين استبشر العالم بنهاية الاستثناء العربى وبداية الربيع، ولكن التطورات التالية كشفت تدريجياً أدوار الجيش والطائفية والقبلية كمعوقات أمام ازدهار الديمقراطية خاصةً فى اليمن وليبيا ثم سوريا، وخلال المراحل الانتقالية ظهرت الحركات الإسلامية كمعوق إضافى فى نظر البعض، وكموجه ثقافى لمسار الربيع العربى فى نظر البعض الآخر. دفع هذا كله المحللين للحذر من إصدار حكم نهائى متسرع بانتهاء «الاستثناء العربى». اُعتبرت تونس خارج السياق -نسبياً- نظراً لحداثة بنيتها المجتمعية التى تأثرت بأوروبا أكثر من غيرها؛ نخبة حديثة ومجتمع مدنى قوى وحركة عمالية وطلابية منظمة ومستقلة عن الدولة، والأهم حركة إسلامية تجديدية أقرب لاستيعاب الديمقراطية، إضافة لجيش غير ضالع فى الحياة السياسية. حتى القيادات الأمنية لدولة «بن على» البوليسية أظهرت «حداثةً» من نوع ما، تمثلت فى سرعة تقبلها لإعادة هيكلة حقيقية للأجهزة الأمنية. فى المقابل، ظهرت مصر كحالة وسط بين فرص الفشل والنجاح، بسبب عدم وجود طرف واحد قوى أو أطراف متحالفة قوية قادرة على حسم الصراع السياسى لصالحها، وهو ما يفسر درامية الصراع الانتقالى وتعقيد سيناريوهات المستقبل فيها. الجيش المصرى بدا بدوره كحالة وسط، فلا هو جيش بشار القاتل لشعبه ولا هو جيش تونس المحايد تماماً، وعلى الرغم من أنه أثبت عدم رغبته فى الحكم، فإن وضعه الطبيعى يجعله ركناً أساسياً فى النظام السياسى، ولو بالتأثير عن بعد، كما أن موقع مصر والمخاطر على حدودها تعطيه وزناً لا يستهان به فى صياغة سياستها الإقليمية والدولية. كذلك الإخوان الذين لم يكونوا قوة مثبطة للثورة كالتيار السلفى مثلاً، إلا أنهم لم يثبتوا كونهم قوة مؤمنة بالديمقراطية، بدليل تجاسرهم على امتهان الدستور والقضاء واتباعهم لمبدأ المغالبة لا المشاركة ولسياسة أخونة الدولة منذ يومهم الأول فى الحكم. أما الكتلة الثورية الشابة فلم تجد منذ بداية الثورة مجتمعاً مدنياً ولا معارضة سياسية قوية تسندها فى فرض مسار العدالة الانتقالية، وهو ما سمح للمجلس العسكرى ثم الإخوان -أو لتحالفهما معاً- بالسير بالبلاد فى مسار متعرج طوال عامين، تضَّمن التهاون مع فلول النظام السابق لاستجلاب دعمهم للاقتصاد المصرى المتهاوى، والتلكؤ فى إعادة هيكلة حقيقية للأمن، حين أصبحت الأولوية لقمع حركة الاحتجاج الشبابى والجماهيرى التى ضربت معظم المحافظات المصرية خلال الشهور الأخيرة. لم يحسن الإسلاميون استثمار تجربتهم الأولى فى الحكم، وفقدوا الكثير من رأسمالهم السياسى والأخلاقى الذى كان يمثل رصيدهم الجماهيرى الأثمن. بعض ممن صوتوا لهم بدأوا يشعرون بالقلق -لأول مرة- من الإقحام المباشر للدين فى السياسة، ومن نسخة متشددة من الإسلام لا تتفق والإسلام الوسطى. يؤذن تنامى هذه المخاوف بحدوث تغير محتمل فى السلوك التصويتى للمصريين فى الانتخابات القادمة، فى اتجاه نوع من التوازن بين القوى السياسية الرئيسية؛ الإسلامية والمدنية، وكذلك بعض الأحزاب الإسلامية الوسطية المعتدلة، وهو تغير قد يكون من شأنه تقديم قبلة الحياة ل«نصف ثورة» لا تزال يراودها الحلم بأن تكتمل يوماً ما.