يا إلهى .. ما أتعسنى، إنها مهمة بالغة الصعوبة، ولكن الظروف السياسية التى تشهدها مصر حاليا، وانحسار المنافسة فى جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، بين الدكتور محمد مرسى مرشح جماعة الإخوان المسلمين، المعروفة بنفعيتها طوال تاريخها، وبين الفريق أحمد شفيق، الذى يوصف بأنه «فلول»، وسوف يعيد إنتاج النظام السابق ..كل هذا جعل استحضار روح رجل السياسة المعروف «ميكافيللى»، أمرا ضروريا، لعله يفك طلاسم المشهد السياسى الراهن بحيادية،لا سيما أن الرجل الذى غيبه الموت فى العام 1527، ليس محسوبا على دولة المرشد أو دولة العسكر، ومن ثمّ فإن شهادته سوف تكون حيادية، لا يخالطها زيف .. عند هذه اللحظة أصبحتُ وجها لوجه مع عميد مدرسة السياسة النفعية «ميكافيللى»، وقبل أن أتأهب لإجراء الحوار وتسجيله،تسلل إلى ذهنى أبيات ذات طابع سياسى خالص لأبى العلاء المعرى، الذى سبق أبا «ميكافيللى» بنحو 7 قرون، قال فيها: يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم ويُقال ساسة فأفَّ من الحياة وأفَّ منى على زمنٍ رياسته خساسة ! انطلقتُ من هذين البيتين فى حوارى مع «ميكافيللى»، الذى أبدى إعجابه بهما،وتضاعفت دهشته من حكمة الرجل،عندما أخبرته بأنه كان ضريرا، فقال لى :عجبا لأمة العرب،كيف لحكامها لا يقرأون ولا يطالعون ما تجود به قرائح مثقفيها؟ فبادرتُه قائلا : ومن أخبرك أن الحكام العرب يقرأون، وإذا قرأوا يفهمون ؟ فأطلق ضحكة مصطنعة لم أفهم مغزاها إلا مع نهاية الحوار .. أردت ُ أن أُطلع «ميكافيللى» على جانب من تفاصيل المشهد السياسى، ليشخصه،وليقدم لنا رؤيته الخاصة بشأن الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية،ونصيحته للمصريين غير المؤدلجين،ولمن يمنحون أصواتهم، أم يقاطعون..فإذا به يطلق ضحكة بدت هذه المرة ساخرة، مؤكدا درايته بجميع تفاصيل العملية الانتخابية،وحيرة المصريين فى التصويت لشخص محسوب على جماعة نفعية،تلعب بالدين على غرائز العامة والدهماء،وآخر يعتبره البعض امتدادا لنظام أسقطته الثورة. السيد «ميكافيللى» ..أهلا بك معنا على صفحات «فيتو»،هكذا بادرتُه،فرد علىّ التحية بلغة عربية ركيكة،يبدو أنه تعلمها من جيرانه الموتى من العرب،أو من خادمه الملتحى،وأحسن استقبالى مقارنة بمصريين وعرب استضفتُهم فى «عودة الروح». لم يدع «ميكافيللى» لى فرصة للاستطراد،وبدأ هو فى الحديث قائلا: لا تغضب منى إذا كنت –أنت- منتميا لجماعة الإخوان المسلمين، فسوف أقول رأيى فيهم بصراحة،من واقع دراستى لتاريخهم الذى قد لا يروق لبعضكم،وأستأذنك ألا تقاطعنى ..،لم أستجب لطلبه،إذ أردتُ أن أبرئ نفسى من شبهة الانتماء للجماعة، فقال : حسنا، قلتُ :إذن تفضل،ولن أقاطعك، فقال: أعتقد أن مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا اعتكف على قراءة كتابى «الأمير «، قبل أن يشرع فى تأسيس جماعته فى العام 1928،لأن الإخوان يتخذونه منهجا لهم فى جميع تعاملاتهم، إننى أندهش فقط من أنهم يكذبون،ويصدقون أكاذيبهم،ويريدون أن يصدقها الناس،هم يدعون المثالية، وهم ليسوا مثاليين، أنا مثلا لا أدعى المثالية، وأعلم أن كثيرا مما كنتُ أصنعه ليس طيبا، ولكن السياسة لا تعرف سوى الغش والخداع، ولن تكون سياسيا بارعا،إلا إذا كنت كاذبا،مهادنا،غشاشا! يصمت «ميكافيللى» قليلا،ثم يستدعى أحد معاونيه، وأمره بأن يحضر لى نسخة من كتابه الأشهر « الأمير»، ثم كتب على صدر صفحته الأولى إهداء شخصيا لى،وقبل أن يعطينى الكتاب،فتحه على صفحة، وأشار إلىّ إشارة صامتة بأن أقرأ،فقرأتُ ما أدهشنى : يقول ميكافيللي في كتابه : الشجاعة تُنتج السلم، والسلم يُنتج الراحة،والراحة يتبعها فوضى،والفوضى تؤدي إلى الخراب،ومن الفوضى ينشأ النظام،والنظام يقود إلى الشجاعة. ربما يكون «ميكافيللى» أدرك لوهلة أننى لم أستوعب،فنقلنى إلى صفحة أخرى قرأتُ فيها: « الدين خير وسيلة لتعويد الناس المفطورين على الشر للخضوع للقانون،فعلى ( الأمير) أن ينشر الدين،ويظهر بمظهر الورع،وهذا أفضل من أن يتصف بالأخلاق الحميدة،ومن الخير للأمير أن يتظاهر بالرحمة والتدين وحفظ الوعد والإخلاص،ولكن عليه أن يكون مستعدا للاتصاف بعكسها،» ف»الغاية تبرر الوسيلة»! حينئذ أزحتُ عن فمى سياج الصمت، وقلت فى دهشة غير مبررة : «نعم ..نعم..فهمتُ، الآن فهمت سيدى ما تريد،أنت تريد أن تقول : إن جماعة الإخوان المسلمين تطبق مذهبك ! قاطعنى : وهل لديك شك ؟،قلتُ :لا، ولكن..،فقاطعنى مجددا : بدون ولكن، وأنا لو كنتُ حيا لعرضتُ عليهم خدماتى، ولا يساورنى شك فى أنهم كانوا سيختاروننى «مرشدا عاما»..مارستُ دهشتى من جديد متسائلا: كيف وأنت ..؟، قاطعنى «ميكافيللى» للمرة الثالثة بقوله: «تقصد : وأنا غير مسلم «؟! قلتُ :نعم،فأجاب : ألم أقل : إن الغاية تبرر الوسيلة، وكلانا كان سيستفيد، الجماعة بأفكارى، وأنا بالتحكم فى دولة كبيرة،مثل: مصر..» لم تحتمل أعصابى صدمات «ميكافيللى» المتدفقة، واستأذنته فى دقائق للاستراحة، احتسيتُ خلالها قدحا من القهوة،أحضره لى خادمه الذى كان يرطن بكلمات عربية،فيما كانت ترتسم على ذقنه لحية مثل لحى الإخوان. استعدتُ أعصابى، وعدتُ إلى السيد «ميكافيللى « الذى وجدتُه يدخن سيجارا كوبيا،وأمامه جهاز «آى باد» ذو تقنية حديثة،بدا أنه يطّلع من خلاله على أحدث المستجدات السياسية فى مصر، وإذا به يطلق ضحكة عالية أزعجت موتى فى موتهم، سألته : ما يضحكك يا سيد «ميكافيللى»؟ فالتفت إلىّ :أضحك على ما يقوله الدكتور محمد مرسى فى مؤتمره الصحفى،إنه يتحدث بلسان ناعم، ويواصل خداع الناس بوعود هو يعرف أنها زائفة ..وما يضحكنى أنه يقلدنى فى كل شيء، وما يسعدنى أن يكون لى تلاميذ وأتباع ومريدون، حتى ولو لم يكونوا فى دهائى،بعد رحيلى بقرون عديدة.. قلتُ:إذن كيف ترى حظوظ مرشحهم فى جولة الإعادة؟ فقال: حتى ولو لم يحسم السيد «محمد مرسى «جولة الإعادة لأسباب خاصة به،فإن الجماعة لن تترك المشهد السياسى،وقد يكون الرئيس بعد القادم منهم،بشرط ألا يكون مرسى؟ أراك غير مقتنع ب»مرسى»،هكذا عقبتُ على كلامه،فقال : بالتأكيد،لأنه رجل لا يملك سمات الزعماء والقادة،خطابه مرتبك،أداؤه مصطنع،ما هكذا يكون القادة والزعماء. ابتسامة باهتة رسمت نفسها عنوة على شفتىّ،فعلّق قائلا: يبدو أن رأيى يروق لك، فقلتُ:نعم،فأضاف :هذه هى الحقيقة! إذن، بم تنصح قيادات الجماعة حتى يحكموا قبضتهم على مقاليد الأمور؟ هكذا سألتُ «ميكافيللى»، الذى أجاب : هم ماضون على طريق النجاح بامتياز، لأنهم –كما أسلفتُ- يحذون حذوى فى كل شيء، ولكن دعنى أجيب إجابة لا علاقة لها بسؤالك، وهى :أنه ينبغى على الحاكم أن يكون إيمانه بأن السلاح هو أصدق وسيلة لخلق دولة قوية،ويؤمن بأنه لا مانع من أن يستخدم السياسى الرجال فى تحقيق مخططه السياسى الذى يهدف اليه ثم ينبذهم اذا تطلبت المصلحة الاستغناء عنهم، والا يقيم وزنا لعهد قطعه على نفسه او لوعد التزم به اذا كان الوفاء بالعهد يعرضه للخطر، وهو ما تفعله الجماعة ..أليس كذلك؟ قلتُ:بلى،ثم ماذا؟ فتابع «ميكافيللى» : أن يؤمن بنظرية «الغاية تبرر الوسيلة»، أى أن السياسة لامكان فيها للأخلاق، وهم يفعلون ذلك،ومن حق من يريد أن يقتنص الحكم أن يلجا إلى الرذيلة والخداع والبطش والقوة والقسوة وجميع أنواع الجرائم وأن يكون بارعا فى الكذب والغش والنفاق ويتظاهر بالتحلى بالصفات الحسنة، ولا يفعلها، والإخوان يصنعون ذلك! وبينما كان السيد «ميكافيللى» يستطرد فى حديثه،وقعت عيناى على جملة رأيتُها مهمة بالكتاب وهى : «أن الناس يحركهم الخوف أو الإغراء،أكثر مما يحركهم الاقتناع»،فسألتُه: ألا ترى أن هناك علاقة وثيقة بينها وبين نتيجة الجولة الأولى فى الانتخابات؟ فأجاب :حسنا،بدأت تفهمنى،وهذه العبارة ترسم ما حدث رسما دقيقا،فكثير من الناخبين أعطوا أصواتهم ل»مرسى»،بسبب الخطاب الدينى أو بسبب الرشاوى التى يقدمونها لهم من «زيت وسكر»،وهذه أمور مهمة فى مجتمع فقير،والذين صوتوا ل»شفيق»، ربما ليسوا مقتنعين به،ولكنهم فضلوه على «مرسى»،خوفا من دولة دينية مستبدة ترفض الآخر،وبحثا عن أمن مفقود منذ اندلاع الثورة. من جديد،يدخن «ميكافيللى» سيجارا،وينفث دخانه فى وجهى غير مكترث،ثم يحتسى قدحا آخر من القهوة،وكأنه أراد أن يريح نفسه قليلا،ثم سألنى : أليس لهذا الحوار من نهاية؟ قلتُ وقد استوعبتُ الرسالة : نعم،نعم، ولكن لى سؤالان ؟فقال :هات الأول، قلتُ : من سيفوز شفيق أم مرسى؟ فأجاب: شفيق،ولكن لن يكمل دورته ! ولا تسألنى :لماذا ؟ حتى لا أتهمك بالغباء، وأندم لأننى جلستُ معك كل هذا الوقت ! قلتُ: بعيدا عن سياق الحوار ..أريد أن تنصحنى! وضع «ميكافيللى» ساقا على ساق،ثم قال مزهوا : لأنك صحفى،فلا تحسن الظن بأحد، ولا تقدم يد العون لأحد، ولا تخجل من استخدام كل الحيل والوسائل،لتحصل على ما تريد بأقصر الطرق، الموهبة والإخلاص فى العمل لا يكفلان لأحد منكم النجاح وتحقيق ما يصبو إليه، لا تكن مثاليا،فالمثالية لا تصنع إنسانا ناجحا،ولكن تصنع السّذج،وأعتقد أنك واحد منهم،ثم تناول «ميكافيللى» سيجاره وعاود احتساء قهوته وانشغل ب» آي باده»، أما أنا فانصرفتُ فى هدوء، وقد كفرتُ بكثير مما كنتُ أؤمن به!