لملمت الطائرة عجلاتها فى أحشائها، وانطلقت مودعة أرض مطار القاهرة الجوى .. لحظات.. وبدت القاهرة غير وديعة وسط سحابات من الدخان والغبار .. أسطح المنازل كما هى لاتعترف أنه في مصر قامت ثورة .. وجه العاصمة عابس كما كان قبل 25 يناير .. بنايات شاهقة تطاول الارتفاع الذي انطلقت به طائرة الخطوط الجوية النمساوية إلى فيينا. أيضا لاتزال فيينا عاصمة الورد والزهر تطل من على بعد.. السماء نقية .. بيوت تسكن الخضرة، وخضرة تغلف كل شيء ، ملامحها توحى بما قالته فيها المطربة الخالدة اسمهان « فيينا روضة م الجنة» . لم يخرجني من حالة العشق التائه في إبداع المنظر، إلا ذلك الصوت الجهوري الكفيل وحده بأن يجرح هدوء المشهد ووداعته .. إنه الزميل أسامة عيد وهو يردد « يالهوى يارجالة كل ده شجر». قال ذلك وهو ابن المنيا عروس الصعيد .. بالطبع اكتشف أسامة فجأة أن فيينا عروس أوروبا وربما عريس الصعيد. أربع ساعات قضيناه ترانزيت فى مطار فيينا الأنيق .. غرف كبيرة مغلقة لمن أراد الاسترخاء حتى موعد رحلته التالية .. صممت بمهابة اللون الأسود وجلال الحوائط البيضاء .. استرحنا جميعا إلا اسامة القافز شمالاً ويميناً .. شرقاً وغرباً غارقاً فى التفاصيل . جاء صوت المذيع الداخلى بالمطار معلناً قيام الرحلة إلى حيث مقصدنا .. هي المرة الأولى التي أزور فيها عاصمة فنان الكاريكاتير العظيم صاروخان .. وعاصمة نوبار باشا .. وعاصمة نيللى ولبلبة وميمي جمال .. وعاصمة ملوك الذهب وصناع البسطرمة وعباقرة طب الأسنان . ثلاث ساعات ونصف الساعة.. استيقظنا من نوم متقطع لا عمق فيه، على صوت قائد طاقم الضيافة، وهو يحيطنا علماً بأننا قاربنا الوصول إلى يارفن عاصمة أرمينيا ذلك البلد الجبلى كما يصفونه في القوقاز . بدت العاصمة الأرمينية نصف مضاءة ،تغلفها مساحات من العتمة التي أحاطت بها فى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، عندما هبطت الطائرة فى مطار يريفان الدولى. الطريق من المطار إلى فندق سلاتشى لم يستغرق سوى دقائق معدودة ، فضلنا فيها أن نفتح نوافذ السيارة ، لنستنشق هواء طازجاً بلا طعم، ولا لون، ولا رائحة، بعدما ودعنا هواء القاهرة الداكن، والمطعم برائحة عوادم السيارات. مفتاح أرمينيا التاريخي والاجتماعى لن تجده إلا عند الدكتور محمد رفعت الإمام فهو العاشق لهذا التاريخ، والقادر على توصيله لتلاميذه فى جامعة دمنهور عبر كبسولات مكثفة قلما تجدها عند غيره.. اعترف بأنني كنت استغلاليا مع الدكتور رفعت فى استقاء المعلومات الخاصة بأرمينيا طوال الزيارة. والاسم الأصلى لأرمينيا هو « هايك» أضيف إليه ستان الإيرانية فتحولت إلى هاياستان ، وهايك هو البطريرك الأسطورى للأرمن وهو حفيد سيدنا نوح، وهو الذى هزم الملك البابلى بيل، وفق بعض المصادر ، وكلمة ستان تعنى الأرض. وأرمينيا مثل غيرها من الدول ذات الحضارات العريقة، كانت إمبراطورية تقلصت يوماً بعد يوم، وعصرا بعد عصر، حتى وصلت إلي تلك المساحة الضيقة المخنوقة شمالاً وجنوباً، حيث لاتزيد مساحتها علي 29،743 كيلو متر مربعاً، وتقع في الشمال الشرقى من الهضبة الأرمينية،التى تعرف باسم أرمينيا التاريخية، وترتفع أرضها عن سطح البحر لتصل إلى أكثر من 400 متر عند جبل أرارات الشهير . في الصباح كان الدكتور محمد رفعت الإمام يقود الوفد الصحفى الذى ضم الزملاء محمد امين المصري من الأهرام، والزميلة ميرفت فهد من الأهرام العربى، والأستاذ أحمد سعيد من وزارة الثقافة، واسامة عيد من فيتو، وكاتب السطور.. إضافة إلى الدكتور أرمن المصري الأرمنى الرائع فى جولة كان هو دليلنا، وكأنه واحد من سكان حوارى يريفان . الحدائق الخضراء تحيط بالبنايات، فتنفى عن أرمينيا وصفها بأنها بلد جبلى، رغم حصارها الحدودى، وعدم إطلالها على بحار أو محيطات . عندما تستقل سيارة لتتنقل من حي إلي حى، فأنت بالطبع تتنقل من قمة جبلية خضراء إلي قاع أكثر اخضرار، أو إلى قمة أخرى أعلى من الأخرى فتري البيوت، وكأنك فوق طائرة تسبح علي ارتفاع يسمح لك برؤية التفاصيل المثيرة. يتسع الرصيف للمشاة، وحدائق زهور متناثرة، وأشجار عتيقة، توحي بتاريخ تليد يحمل بين دفتيه سنوات من الحب، وأخرى يسكنها القهر، وثالثة تنثر قطرات من الدم الأرمينى على ثوب الإنسانية، التى تجاهلت مذابح راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء في بدايات القرن العشرين، ربما نتناولها فى كتابات قادمة. البيانو هو قطعة الأثاث التى لايخلو منها بيت واحد مهما كان مستواه المادي، فالأرمن يعشقون الموسيقي بنفس عشقهم لجبل أرارات، الذى يقع ضمن الأراضى التركية، ويعتبره الأرمن جزءا من أرضهم التاريخية، لذلك تجده على شعارهم الوطنى حتي اليوم . علي بعد كيلو مترات ليست بالكثيرة، كنا في اقرب نقطة نكاد نلمس منها جبل ارارات، الذى يطلقون اسمه علي المياه المعدنية، وعلى الشاى، وعلي النبيذ، وعلى معظم ماينتجونه تمسكاً به كجزء من الوطن، وكأنهم يطبعونه علي الذاكرة الوطنية حتي لاتنساه الأجيال. ميدان الجمهورية هو الأكثر شهرة بين الميادين .. هو هنا كميدان التحرير في مصر .. فيه انتفض الشعب ولايزال ضد كل محتل، أو غاصب، أو ديكتاتور .. البنيات التى تحدد ملامح الميدان بنايات شاهقة ، تاريخية ، تمتلك ملامح قلما تجدها إلا فى الدول التي رزحت تحت نير الاحتلال السوفييتي الذي اتسم بضخامة عمارته . المساكن الشعبية الباقية من عهد السوفييت تصل الواحدة منها لأكثر من ثلاثمائة شقة في عمارة واحدة. تماثيل القادة والموسيقيين والكتاب والشهداء تزين شوارع العاصمة، في مشاهد تغلفها الهيبة والجمال والأناقة . والمصرى في أرمينيا لن يجد نفسه غريباً، فهنا يعترف الجميع بما لمصر من دور تاريخي فى احتضان الأرمن، عندما كان الموت يحاصرهم داخل وطنهم .. سافروا إلي مصر .. أقاموا فيها .. عاشوا .. أصبحوا جزءا من النسيج الوطني .. وصلوا إلي اعلي المناصب . في ساحة الجمهورية وصلت الحشود من جميع المدن والقرى لتحتفل باليوم الوطنى .. أكثر من نصف مليون مواطن .. فتيات بطعم النور، وقد تخففن من ملابسهن، فظهرن وكأنهن مصابيح تضئ، وشباب يغنى مع مطربين أقاموا مسرحاً ضخماً وسط الساحة .. لم يتحرش فتي بفتاة .. لم يلمس شاب شابة .. الكل يغني ويرقص في أدب ليس موقعه ساحات الزحام.!! تذكرت مانراه في شوارعنا .. لماذا لايتحرشون بعضهم ببعض ؟ !! شىء غريب وعجيب حقاً ذلك الذي نعيشه نحن في بلد قالت نتائج انتخاباته إن 70٪ ممن فازوا كانوا من التيار الإسلامى ويتحرش نصفنا بنصفنا الآخر!! يطرح البسطاء من الريفيين بضاعتهم من طازج الفواكه على الطرقات .. تستطيع ان تشتري خوخاً، وتفاحاً، وعنباً، من تلك الأنواع التى كنا نستطعمها قبل عشرين سنة فى مصر، قبل أن يطعنوا فواكهنا بمبيدات الموت، الطريق إلى الساحرة، الطائرة، الزاهرة، مدينة جيرموك يأخذ الألباب ، تتساقط جداول المياه من أعالى القمم، فى مشهد صنعته السماء لا يد لبشر فيه ، تتلون أجساد الجبال الشاهقة بألوان صفراء وحمراء وخضراء من أشجار تضفى على عظمة تلك الجبال مهابة وإجلالاً عظيمين. إذا أردت أن تتعرف على الحياة السياسية فى أرمينيا ليس عليك إلا أن تتابع مايحدث فى مصر قبل يناير، حزب كبير، وأحزاب صغيرة، وأصوات تتابعها عواصم الغرب بدقة متناهية، فالموقع الجغرافى وارتباطات أرمينيا بروسيا يجعل منها محطة سياسية مهمة فى محيطها، وإذا كانت مصر تطل على بحرين كبيرين فى عالم الجغرافيا السياسية، فإن أرمينيا ليس لها من حظ مصر شيء، فالحصار الحدودى يحيطها بغلاف سميك من القيود، إلا من ناحية إيران التى تحظي بعلاقات طيبة مقابل حدود ساخنة مع ازربيجان، وتركيا، وجورجيا، الجغرافيا تلقي بهمومها علي المواطن الأرمنى بشكل يرسم ملامحه على وجوه الناس، حيث تسكنهم مساحات من الكأبة أكثر من سنتيمترات من التفاؤل. وأرمينيا بعد الاستقلال لاتزال تلقي ببؤرة تفكيرها فى العاصمة الروسية موسكو .. يرتبطان بعلاقات المستقل الذى لايستغنى عن المحتل . مظاهر الوجود الروسي أكبر من أن تغفلها عيون الزائر مثلنا، وإذا كان العداء قد وضع قوانينه بين تركيا المتهمة بارتكاب مذابح ضد الأرمن، وأرمينيا التى تصر على الحصول على اعتراف بالجريمة، فإن الأسواق الاقتصادية تحفل بغير ذلك، فالبضاعة التركية تسيطر على الموقف. فى عام 301 م أعلنت أرمينيا اعتمادها المسيحية ديناً للدولة، فكانت الدولة الأولى التى تنتهج ذلك الطريق.. تستطيع أن ترى بوضوح كنائس تطاول التاريخ عراقة، وقد حفرت فى أحضان الجبال الشاهقة، غير أنهم هنا يفصلون بين السياسة والدين، ولا وجود لإخوان مسيحيين هنا. ولتتعرف أكثر على طبيعة الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، فإننى سأتناول ذلك في مقالات تالية، كلما سنحت ظروف الكتابة، خاصة وأن مانمر به فى مصر يخطف القلم دوما من بين يدي، ليغوص فى أعماق همومنا، التى لا يبدو أن لها نهاية قريبة.