وكما أن الجسد يتم أسره أحيانا فإن النفس يتم أسرها غالبا ، وذات لحظة جلست نفسي المأسورة قطعا تبحث عن خلاص لذلك التردي الذي وقعت فيه النخب التي تقود الأمة ، حتى أن الفترة الانتقالية للحكم صارت فترة انتقامية ، وعلى أرض مصر يقتل المصري أخاه المصري ببلاده ودون مبالاة ، وأبدا لم نكن كذلك .. ولأن النفس إذا أصابها ألم جلست مع صاحبها وأسّرت في قلبه بعض أسرارها ، فقد جلست نفسي معي وتحدثت بصوت خفيض وسألتني عن الحماقة والحمقى فقلت لها وقد رفعت صوتي : عن أي أحمق تسألين ؟ عن أولئك الذين قادوا الأمة إلى ما هي فيه ؟ فأنبأتني نفسي وقالت أليس من الحماقة أن ترفع صوتك في مثل هذا الموقف الذي تسيَّد فيه الرعاع والسوقة والدهماء الذين يزعمون أنهم يحملون الحل الإسلامي ، وتسيَّد فيه أيضا العسكر الذين لا يريدون مفارقة الحكم قيد أنملة !!. عدت لنفسي وأنا أقول لها بصوت خفيض : قرأت في أخبار الحمقى والمغفلين عن أبي إسحاق .. قال أكرمه الله : إذا بلغك أن غنياً افتقر فصدق، وإذا بلغك أن فقيراً استغنى فصدق، وإذا بلغك أن حياً مات فصدق، وإذا بلغك أن أحمقا استفاد عقلاً فلا تصدق. وقرأت أيضا عن أبي يوسف القاضي الذي قال : ثلاث ... صدق باثنتين منها ولا تصدق بواحدة، إن قيل لك إن رجلاً كان معك فتوارى خلف حائط فمات فصدق، وإن قيل لك إن رجلاً فقيراً خرج إلى بلد فاستفاد مالاً فصدق، وإن قيل لك إن أحمقا خرج إلى بلد فاستفاد عقلاً فلا تصدق. أما الأوزاعي فقد قال : بلغني أنه قيل لعيسى ابن مريم عليه السلام: يا روح الله إنك تحيي الموتى؟ قال: نعم بإذن الله. قيل وتبرئ الأكمة؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني . وبعد أن تحدثت مع نفسي عن الحمقى أبعدنا الله عنهم ووقانا شرورهم أردت أن أتعالم عليها وأذكرها ببعض الأقوال المأثورة التي أخرجتها ذات يوم من نفسي المأسورة وقد ظنت نفسي أن أقوالها هذه هي خلاصة خبرة السنين إن كان هناك خبرة جدلا وحكمة التجارب ، ورغم أن الحكمة كانت تقتضي إخفاء هذه الأقوال ، إلا أن الحماقة أعيت من يداويها .. وهاهي بعض أقوالي المأثورة التي استودعتها كراستي . ( « لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا » قالها سيدنا علي بن أبي طالب فسمعناها ثم جعلنا من أنفسنا عبيدا لغيرنا ، أما طاغور فقال « ثقيلة هي قيودي والحرية هي منأي ولكنني لا أستطيع أن أحبو إليها فمن استعبدوني رفعوا لافتات الفضيلة وجعلوها حائطا بيني وبين حريتي » أما عندنا فقد أصبحت لافتات الفضيلة هي جدران السجن الذي يتم استعباد الغافلين فيه ) ( عندما ننظر إلى القمر في ليلة اكتماله فإن نوره سيستلب عيوننا ويخطف أفئدتنا إلا أننا لن ندرك تحت وطأة هذا النور أن القمر ما هو إلا جسم معتم شديد الظلام والوحشة كثير الصخور والحفر ) ( عندما يتسلق الإنسانُ بدأبٍ وإصرار الجبلَ ليصل إلى القمةِ فإنه سيصل حتماً ولكن ينبغي عليه أن يعلمَ أن الغيوم َوالسحبَ تحيطُ بالقمةِ من كل جانب ) (شتان بين من يطلب الحق فيخطئه، وبين من يطلب الباطل فيصيبه .. الأول أخطأ والثاني أصاب ، ولكن خطأ الأول صواب لأنه اجتهد للحق وصواب الثاني خطأ لأنه انتصر للباطل ) وبعد أن تحدثت بهذه الحكم المأثورة مع نفسي قلت لها : ما قلته آنفا هي مجرد كلمات مأثورة لعل أحداها يتفرس فيها فينتفع بها ، فقالت لي نفسي وقد أبدت انزعاجها : إن من الحكمة ألا أجلس معك في مكان واحد أبدا .. سلام يا صاحبي