تعرف الغوغائية, أو الديماجوجية, كاشتقاق لغوي, يوناني قديم بأنها استراتيجية لكسب السلطة السياسية, من خلال اللجوء إلى الخطابة الحماسية, والدعاية المغرضة, لاكتساب عواطف العامة, بدغدغة عواطفهم, أو بتخويفهم من مخاطر تحدق بهم، ويكون ذلك بطريق الباطل والكذب، وغالباً ما يستخدم خطابها الشعارات القومية والوطنية، كما تستخدم الدين وتوظفه كما تريد في المجتمعات المتدينة عموماً, والتي يغلب فيها سهولة الانقياد الأعمى للكهانات والزعامات الدينية المغرضة. ولقد رأينا كيف أن الحكم العسكري الذي نشأ سنة 52 بعد انقلابه على الملكية, قد استخدم ذلك المنهج بكل وضوح, لبسط سيطرته المجتمعية، وللحصول على المكاسب السياسية على أرض الواقع، وظف خطابه الغوغائي في شريحة العمال, والفلاحين الذين عانوا من تهميشهم من قبل، ونجح ذلك الخطاب أيما نجاح، فلقد لعب على وتر الفقر, والجهل, والمرض المتفشي في تلك الشريحة، وأوهمهم بأحلام ملكية الأرض, والكرامة المجتمعية، ثم تحول خطابه بعد أن ارتكز على قاعدة العمال, والفلاحين, إلى معان قومية, ووطنية لم يحقق منها أي شيء إلا السيطرة على مقدرات البلاد, والعباد , لسنوات طالت كهدف, وضعه لنفسه من أول يوم له بعد استيلائه على السلطة، واستطاع الاستمراربرغم كل الهزائم, والكوارث, التي حدثت لمصر في عهده، وبعد كل ذلك, وبالرغم من تلك الكوارث, والمحن لم يعتبر شعب مصر في عمومه, ولم يتعظ, ولم يدرك أنه قد تم التغرير به, وخداع آماله , لمصلحة فئة استولت على مقدرات البلاد والعباد, وأفسدت في شتى مناحي الحياة المصرية. وتمضى السنون, وتتوالى الأنظمة, ويثور مثقفو الأمة, وخُلاصة شعبها من شبابها من الذين لم تؤثر فيهم تلك الخطط الغوغائية, لقلب الحقائق, والاستخفاف بالعقول، واستطاعوا أن يحددوا الطريق الصحيح, وسط كل محاولات التعتيم, والتجهيل المنهجي, الذي مارسه ذلك النظام الممتد من خمسينيات القرن الماضي، واستطاعوا بكل اقتدار أن يقوموا بثورة هزت العالم بأسره، وأسقطت رأس نظام يملك أعتى قوة أمنية, بصورة سلمية حضارية، لقد بعث هؤلاء الشباب مفهوم الأمة المصرية من جديد، وتجاوزوا فترة الحكم العسكري، وبانت تباشير استنهاض مصر كأمة كما كانت من قبل، فما كان من النظام إلا أن عاد لخطته الغوغائية السابقة, والتي حققت نجاحاً مذهلا طيلة ستين سنة مضت، قسم فيها البلاد, وأفقدها أرضها وكيانها، إلا أنه غير خطابه فيها تغييراً نوعياً, ليقسم الأمة الناشئة من جديد, ليصبح الخطاب خطاباً دينياً غوغائياً من آخرين متفقين معه في هدف الحصول على جزء من السلطة السياسية كما أوهمهم، فأطلق لهم العنان، فأصبحت السياسة يتداولها المتأخونون , وشيوخ الوهابية, وأصحاب الفتاوى الجاهزة, ومن سار في ركابهم, ممن قسم المجتمع, واستعدى الآخر، وأطلقت الحملات الانتخابية عبر آلاف المساجد تبشر بالجنة, لمن اختار أحزابهم , وبجهنم لمن أعرض عنهم، وهو خطاب غوغائي واضح شكلاً ومضموناً، فلا من اختارهم حقيق بدخول الجنة , ولا من لفظهم وجبت له النار، ودفع النظام بهؤلاء, وهو من خلفهم داعماً لتخوين الثوار, والدعاء عليهم بالويل, والثبور, وعظائم الأمور، لقد حدد النظام أعداءه بكل وضوح, وهم طليعة الشباب الثائر الذي اتحد يوم 25 يناير, واستطاع استنهاض مفهوم الأمة المصرية الواحدة, والذي أعلن حالة الإخاء المجتمعي، لقد كان إخاء اجتماعياً يشبه في مضمونه ذلك الإخاء العقائدي الأول الذي أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان جديراً بأن يستنهض قدرات الأمة كلها, ككيان واحد,لا شائبة فيه تحت مظلة ومفهوم الدين الحقيقي، وكان هذا سر اجتماع طوائف الشعب وراء هؤلاء الشباب النقي، فكان قرار النظام هو الدفع بمن يشتت هذا الشمل , ويفكك وحدة الأمة التي تشكلت، ونزل الإسلاميون الشارع بشعارات شكلية , تنذر الآخرين, وتقصيهم, وتقسم المجتمع من خلال مفاهيم الفرز والتجنيب، واستطاع النظام الممتد أن يقسم نسيج المجتمع بهؤلاء, وكانت عدته في ذلك الغوغائية الدينية.. تبا لهم.