"ياللي ظلمت الوداد ورضيت بطول البعاد، ارحم أنين الفؤاد؛ البعد أضناني". بالمصادفة البحتة تسللت كلمات هذه الأغنية لأذني خلسة، أتذكرها جيدا، كلمات هذه الأغنية ترددت على مسمعي طويلا، علها ترددت شهورا طوال أو بضع سنوات، وربما خانتني الذاكرة فلم أعد أدقق في ساعات الدهر، لم آبه لصاحبة الأغنية، ولا لعصرها، كل ما أذكره هو المرة الأولى التي اختلطت كلماتها بإحساسي، فاعتصرني ألم شوقي لليالٍ خوال، تمنيت كثيرا أن تعود، وعبثا ما تمنيت. كلمات قالتها واصفة ما يكنه صدرها ويثقله كثيرا حد الألم، تنهدت قليلا وكأنها تذكرت لحظات مثلت ذكريات؛ تذكرتها وابتسامتها تتسع وعيناها يزداد بريقها كأنها استعادت عذب إحساس منسي، وكأن حنينها لتلك اللحظات يجرفها لتيار مشاعر قديمة ما استطاع الزمان محوها، أو كأن إحساسها بات نيرانا مشتعلة لبركان خامل منذ أمد بعيد. أيعقل أن يزورني شوقه من جديد! أتداعبني رياح حنينه بعد هذا الدهر، يا روح أفيقي!! حنينه بات ريحا عاتية لا رياح. حزن امتزج بالحنين مشوب بألوان من الحيرة والعتاب، يا قلب- قالت دامعة- أتلين لمن قسا! أتحنُ لمن جفا! ولم لا تنسى من هجر! صمت طغى لثوانٍ قليلة وشرود داهم، كأن شريط الذكريات أبى إلا أن يعاد، أربعة حروف شكلوا سقف جنتي حينها؛ حينما نطقتها أحسست بأن الزمان يتوقف، لنعبث بدقائقه وساعاته كما شئنا، كأنني وجدت ضالتي، وجدتني حينما وجدته، بيد أنني لم أعلم بأن طيف الفقد يحلق في سماء أحلامي. وقد يحدث أن ما أضفى لحياتك الباهتة لونا، هو ذاته من أقحمك في لون قاتم فاقتنعت أنه يليق بك، من روى روحك من عذب الإحساس فتعلقت إلى أن تُيمت، هو من اجتثها كنبتة مريضة، روحك تلك التي أغرقتها بحور الأسى أياما لم تعد تُحصى؛ بعد أن صافحتها أكف السعادة على مهل، أطاحت بها مشاعر هوجاء على عجل، مشاعر مشوبة بغموض متسلل خلسة من مكان مجهول، لا تدري كنهه، وما أدراك حينها أنك قبيل عهد قطعه أحدهم، فأدانه الزمان عندما أخلف ما وعد، وحنث فيما أقسمه. كلمات تتعارض، وردود متخاذلة، مبررات انسحابية، ونظرات فقدت براءتها، كما افتقدت لسحرها الجاذب، فلم يعد سوى بريق كاذب. أقمت عالمي بإحساس لا يضاهيه إحساس، وهدمته بضع كلمات اخترقت فؤادي حينما أحسست أنه الوداع، تهاوى عالمي حين نظرت لعينيه فأفزعتني نظرة قاسية لم أراقبها من قبل، كأن نهر الود تحول إلى مستنقع ضحل، إلى هنا وأكتفي يا قلب!! قالتها ولم تلحظ دموعها المنهمرة من عينيها، الساقطة كجمرات ينصهر القلب حسرة لما أصابه. لم وعدت، لم ودعت، لم عدت!! قالتها وهي ترتعد، لم يطاردني طيفك وقد رحلت منذ زمن، لم يئن القلب رغم أن الفراق قد طال أمده، يقولون إن الزمن كفيل بمواراة الذكريات، فلم ذكراك راسخة وكأنها محفورة بخلدي وأقسمت ألا تغادرني إلا بفراقي للحياة، لم جُرح روحي لم يلتئم بعد! أيعقل أنني ما زلت..... أيعقل أنني ما زلت أحبك!! وإن كان هذا فلم لم أراودك كل هذه السنوات! بدأت أنفاسها الحارة في التقطع من كثرة البكاء الذي سرعان ما تحول نحيبا، وألم السنوات الصامت فاض فلم يتحمله قلبها، ودموعها تصرح عن مشاعر مكنونة لم يطمرها الزمان وإنما أحيا منها ما مات. فجأة يدب الهدوء أركان المكان، وإذا بها قد أزاحت عنها الدموع، فظهرت امرأة هادئة، تراها فتتلمس الوقار في هيئتها، أيعقل أنها تلك التي ذرف قلبها دما، نظرت نظرة يملؤها الأسى، بيد أنها كانت مسالمة؛ كأنها أدركت بعد كل تلك سنوات التأوه الصامت والدموع المكتومة أنها كانت المخطئة أحيانا، غير أنه خذلها للأبد، ألقت نظرتها الأخيرة وكأنها أبت إلا أن تبدو بكامل قواها، أوصدت الباب وتوارت للأبد عن بقعة ذكرياتها الأليمة.