الصراع المصرى - السودانى على مثلث حلايب بدأ قبل سنوات طويلة حيث قدم كل طرف أسانيده القانونية، وشواهده على أنها جزء من أراضيه، وعلى الرغم من أن مصر تستند لأقدم الاتفاقيات, وهى اتفاقية 1899، إلا أن السودان اعترضت, وقدمت أسانيدها ومبرراتها لهذا الاعتراض، وفى هذا التقرير نرصد الأسانيد القانونية لكلا الجانبين، والشواهد التى يستندون إليها لإثبات صحة تبيعيتها لهما ، وذلك وفقا للمعلومات التى كانت «الجريدة الرسمية» قد نشرتها منذ سنوات. تتمثل وجهة النظر المصرية فى أن الحدود السياسية بين البلدين قد رسمتها اتفاقية 1899، وهى اتفاقية دولية واجبة الاحترام على السودان، ولا يغير من الوضع ذلك التصريح الذى أصدرته حكومة السودان فى مستهل الاستقلال «بعدم تقيدها بمعاهدات سابقة لإبرامها على استقلالها إلا إذا أقرتها», فهو تصريح من جانب واحد وغير ملزم دوليا، وأن هذا الحد هو خط عرض22, وأن أى تعديل فى هذه الحدود يجب أن يتم باتفاق دولى صريح بين الحكومتين. واستشهدت وجهة النظر المصرية باتفاق سنة 1902، وهو قرار من وزير الداخلية يتحدث عن مناطق عربان السودان ومصر، ويعنى بوضع ترتيبات تنظيم عملية الإشراف الإدارى من الدولتين على القبائل المتداخلة فى المنطقة, بحيث يتم إخضاع بعض القبائل للإدارة السودانية وإخضاع البعض الآخر للإدارة المصرية. وأوضحت السلطات المصرية أن زعم السودان بأنها اكتسبت السيادة على هذه المناطق بمباشرة سيادتها عليها، مرفوض, لأن السودان لم تكن تتمتع بسيادة فعلية قبل استقلالها فى أول يناير عام 1956، وكانت السيادة معقودة للحكومة المصرية وينوب عنها فى الإدارة حكومة السودان الثنائية بالاشتراك مع بريطانيا. كما أن دستور السودان المؤقت الصادر سنة 1953 نص فى مادته الثانية على «أن السودان تشغل ما كان معروفا باسم السودان المصرى الإنجليزى قبل العمل بالدستور مباشرة»، وعبارة «السودان المصرى الإنجليزى» لم تؤكد إلا باتفاقية سنة 1899، التى أوضحت أيضا أن حدوده تنتهى عند خط 22 درجة شمالا، كما أنه لا يصح الاستناد إلى دستور وطنى للتحلل من الالتزامات الدولية. وأوضحت مصر أن الانتخابات السودانية التى أجريت فى هذه المناطق تطبيقا لاتفاقية الحكم الذاتى سنة 1953 لا يمكن الاعتماد عليها كدليل لمباشرة السودان السيادة عليها، وذلك لأن هذه الانتخابات لها طبيعة إدارية وليست سياسية، واشتراك سكان المناطق المصرية الملحقة بالسودان فى انتخابات إدارية، هو نوع من اشتراك الأهالى فى أنظمة الإدارة المحلية، ولا يعتبر بحال من الأحوال اشتراكا منهم فى النظام السياسى للسودان، وبعد استقلال السودان قامت مصر بالاحتجاج عندما علمت بنية الحكومة السودانية إجراء انتخابات سياسية فى المناطق المصرية التى تديرها. وأكدت مصر على أن عدم إجراء الحكومة المصرية لانتخابات فى هذه المناطق المصرية التى تديرها حكومة السودان، لا ينهض دليلا على تخلى الحكومة المصرية عن سيادتها على هذه المناطق , لأن مباشرة بعض المناطق - وخاصة مناطق الحدود- يقتضى أنظمة خاصة، تتلاءم مع طبيعتها وظروف سكانها، وفضلا عن ذلك، فقد وجدت موانع قانونية وإدارية تحول دون إجراء انتخابات معبرة فى جو طبيعى نظرا لوجود الإدارة الثنائية. أهم مظاهر الوجود المصرى.. وتمثل فى وجود السكان من قبيلتى البشارية والعبابدة فى المنطقة, وعبر الحدود بين مصر والسودان, وقد حصل عدة آلاف منهم على بطاقات تموين مصرية, كما يوجد عدد آخر يحمل جنسية مزدوجة وبطاقات شخصية مصرية كما يوجد مكتب «أهلي» للبريد المصرى وقاعدة لمكافحة الجراد تابعة لوزارة الزراعة، وفى عام 1954 تم إنشاء شركة «علبة» المصرية للتعدين، ومارست نشاطها فى هذا المجال حتى تم تأسيسها سنة 1963، وانضمت إلى شركة النصر للفوسفات التى واصلت إنتاجها من المنجنيز حتى مايو 1985، حين رفض الجانب السودانى السماح بنقل الخام إلى خارج المنطقة «ثم استأنفت نقل الخام وشحنه». وفتحت مصر خلال سنة 1974 اثنتى عشرة نقطة مراقبة بالنظر بين الشلاتين ومنطقة علبة (تبعد كل نقطة عن الأخرى حوالى 10 كم)، وكان من المقرر أن يصل عددها إلى 24 نقطة ،إلا أن السلطات السودانية عرقلت ذلك وطالبت بتعيين أطقم من السودانيين لهذه النقاط . وأقامت وزارة الداخلية المصرية فى عام 1974«هوائى لاسلكى» كبيرا على ارتفاع 400 متر عند مقر شركة النصر للفوسفات, وقد اعترضت الحكومة السودانية على تشغيله، وتعاقدت مصر سنة 1974 مع شركة للتنقيب عن البترول فى منطقة حلايب, فقام السودان بالتعاقد مع أحد فروع الشركة نفسها للتنقيب عن البترول فى المنطقة ذاتها لصالح الحكومة السودانية. وفى سنة 1983 أنشات مصر معسكرات ونقاط حدود فى كل من جبل الصحابة بالضقة الشرقية، وفى أشكيت وأرتين وخورة سرة، وفى 22 إبريل 1986صدر قرار رئيس الوزراء رقم 45 لسنة 1986 بإنشاء محميات طبيعية فى منطقة جبل علبة بمحافظة البحر الأحمر، نظرا لما تتميز به هذه المنطقة من ظروف مناخية وطبيعية, وقد تضمن القرار إنشاء فرع لجهاز شئون البيئة فى محافظة البحر الأحمر برئاسة المحافظ وعضوية ممثلى كل من وزارات السياحة والزراعة والدفاع والداخلية وأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا، وجهاز شئون البيئة بمجلس الوزراء، كما تقوم المحلات التجارية فى المنطقة بعرض وبيع المنتجات والبضائع المصرية. أسانيد السودان تتمثل أسانيد السودان فى سيادتها على تلك المناطق فى أن اتفاقية 19 يناير لعام 1899 الموقعة بين مصر وبريطانيا والتى حددت حدود البلدين ليست ملزمة للسودان باعتباره لم يكن طرفا فيها، كما أن القرارات الوزارية التى صدرت عن وزير الداخلية المصرى فى عامى 1902 ، 1907 قد عدلت اتفاقية يناير 1899, وأن الحدود الإدارية هى فى الواقع ذات الأهمية الأولى فى تحديد حدود الدولتين, وأن خط عرض 22 درجة ما هو إلا تحديد عام, بالإضافة إلى أن كل التعديلات التى أجريت على هذا الخط التحكيمى قد أجريت لسبب واضح هو تجنيبها إخضاع نفس القبائل لإدارات متعددة، وأن الحدود الحالية للسودان تؤكد ذلك. وقال الجانب السودانى إنه باستثناء بعض تعديلات بسيطة فإن هذه الحدود ظلت على ما هى عليه منذ قرارات سنتى 1902، 1907، وأن الحدود الحالية للسودان والتى ظلت تحت إدارة حكومة السودان المستمرة، قد تأيدت فى الاتفاقية المصرية- الإنجليزية التى عقدت فى فبراير عام 1953, ودستور فترة الانتقال التى أعقبتها, والذى نص فيه على أن «أرض السودان تضم لها الأراضى التى كانت تعرف باسم السودان المصرى الإنجليزى» قبل العمل بهذا الدستور. كما أن الانتخابات المصرية بما فى ذلك استفتاء 1956 على رئاسة الجمهورية، استبعدت هذه المناطق بما فى ذلك انتخابات الحكم الذاتى التى أجريت تحت إشراف لجنة دولية كانت مصر ممثلة فيها، وأن رئيس وزراء السودان قد أوضح لدولتى الحكم الثنائى يوم استقلال السودان فى أول يناير عام 1956 أن السودان يحتفظ بحقه فى عدم التقيد بأى معاهدة أو اتفاقية أبرمت نيابة عنه قبل الاستقلال، وكان الأجدر بمصر إذا كانت لها آراء معارضة فى هذا الشأن أن تتقدم بها قبل الاستقلال أو بعد أن تسلمت خطاب رئيس وزراء السودان المؤرخ فى 3 يناير 1956. ونظرا لوضع المنطقة، من حيث تبعيتها سياسيا لمصر، وخضوعها للإشراف الإدارى للسودان, وباعتبار أنها أصبحت محل نزاع بين البلدين منذ سنة 1985، فقد حرصت مصر على اتخاذ الإجراءات التى تؤكد سيادتها على المنطقة، كما تعددت إجراءات السودان التى تجاوز بعضها صلاحيات الإشراف الإدارى , فى محاولة منه لفرض سيادته السياسية الإقليمية على تلك المنطقة. مظاهر الوجود السودانى تستند السودان لعدة مظاهر لإثبات وجودها فى المنطقة، وهى منح السودان تراخيص التنقيب عن البترول والمعادن فى المنطقة لعدة شركات سودانية منذ نوفمبر 1958، كما تعاقدت مع بعض الشركات الأمريكية ( شركة تابعة لشركة الاتحاد البترولى لكاليفورنيا سنة 1974، شركة تكساس أيسترن فى ديسمبر 1981 لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد). ومنذ عام 1962 بدأ العمل فى استصلاح الطريق البرى بين بور السودان وحلايب، وتم إنشاء شركة سودانية للصناعات المتنوعة، إلى جانب وجود عناصر من حرس الحدود السودانية. وتم إنشاء نقطة للشرطة السودانية فى علبة فى إبريل 1966 وأخرى فى الشلاتين فى أغسطس 1966 ورفع العلم السودانى عليها، وإنشاء مديرية البحر الأحمر السودانية فى نوفمبر 1972 ، لتشمل الأراضى المصرية فى حلايب والشلاتين، إلى جانب وجود عدة ثكنات للشرطة. كما تم إنشاء مدرسة سودانية تضم عددا من التلاميذ المصريين تدرس لهم المناهج السودانية ويعمل بها بعض المدرسين السودانيين، ووجود وحدة طبية صغيرة ومكاتب للبريد والتليغراف. وقد ارتبطت بعض مظاهر الوجود السودانى فى المنطقة بحرص السودان على اتخاذ العديد من الإجراءات التى تهدف إلى تثبيت دعاواه حول سيادته عليها متجاوزا مقتضيات الإشراف الإدارى وهو ما يمكن تهيئته من خلال استعراض التطورات المحيطة بالنشاط التعدينى بالمنطقة، وتتلخص هذه التطورات فى بدء النشاط التعدينى فى المنطقة منذ عام 1915, فقد كانت الحكومة المصرية ممثلة فى مصلحة الثروة المعدنية وقتئذ، تصدر تراخيص البحث وتبرم عقوم استغلال موارد المناجم فى المنطقة للشركات والأفراد من المصريين والأجانب، وقد صدرت بعد ذلك عدة قوانين منظمة لهذه الأنشطة مثل قانون المناجم رقم 36 الصادر سنة 1945، والقانون رقم 66 الصادر فى سنة 1953 والتعديلات التى أجريت عليه بالقانون رقم 86 لسنة 1956. وفى سنة 1963، وبناء على القرارات الجمهورية الصادرة بالقانون رقم 72 والقانون رقم 83 والخاصة بتأميم الشركات والمنشآت التابعة للقطاع الخاص العاملة فى مجال التعدين، وإنهاء عقود استغلال المناجم الممنوحة للأفراد أو شركات القطاع الخاص، اقتصرت ممارسة هذا النشاط على شركات القطاع العام فقط. وفى محاولة من جانب السودان لتأكيد دعاواه حول تبعية منطقة النزاع لسيادته، بادر فى سنة 1958 إلى تقديم شكوى ضد مصر إلى مجلس الأمن بهذا الخصوص، كما تعددت ممارسات الحكومات السودانية ومخالفتها القانونية فى هذا الصدد، بإصدار تصاريح سودانية للعاملين المصريين بشركة النصر للفوسفات فى المنطقة، وإلقاء القبض على أعضاء بعثة تعدين واستكشاف مصرية، ثم الإفراج عنهم فى فبراير 1986 بعد التحقيق معهم فى بور السودان، وطبع خرائط سودانية تجعل من الخطوط الإدارية حدودا سياسية لها مع مصر. ووفقا لما رصدته الجريدة الرسمية فإن الثابت أن السلطات المصرية ظلت تمارس حقوق سيادتها على منطقة النزاع منذ بداية القرن العشرين ، وحتى أواخر الخمسينات، رغم خضوع المنطقة طوال هذه الفترة للإشراف الإدارى من جانب السودان، الذى دأب منذ عام 1958 على القيام بالعديد من الممارسات التى جاوزت اختصاصات الإشراف الإدارى على سكان المنطقة.