لا يصل المسافر إلى دار إقامته إلا إذا خف متاعه، واكتفى من طعامه بالقليل، ومن ثيابه بما يستر جسده، فهو زاهد في ملذات الطريق حتى يصل إلى نعيم هو فيه مقيم.. ما سبق يصف حال المؤمن في الحياة الدنيا التي هي بالنسبة له ممر إلى الآخرة، ولا يجب أن ينشغل الفطن ببنيات الطريق عن غايته المرجوة وهي الجنة. ولا يصل المؤمن إلى الآخرة ب«قلب سليم» إلا إذا كان زاهدا في الدنيا راغبا في الفردوس الأعلى.. هذا ما أكده الداعية أشرف سعد، في حديثه عن الزهد الذي يبدأ بالاستغناء عن ملذات الدنيا من أجل الفوز بالسعادة الأبدية المتمثلة في الجنة، موضحًا أن الإنسان الزاهد ليس الذي فقد، بل الذي وجد الشيء وتركه ابتغاء وجه الله. ««سعد» أكد في حوار ل«فيتو»، أن الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح فيها متاعب لا تنتهي؛ اجتماعية ونفسية وجسمية، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، موضحًا أن الزهد ليس إلا طريقًا لنيل محبة الله تعالى، من عزوف النفس عن الدنيا والنظر إليها بعين الزوال وأنْ تعرض عن ملذاتها، لهدف الوصول للجنة.. وإلى نص الحوار: في البداية.. حدثنا عن معنى الزهد؟ الزهد هو أن يكون الشيء ليس في قلب الإنسان وإن كان في يده، فالإنسان الزاهد ليس الذي فقد متاع الدنيا بل الذي رزقه الله به وتركه ابتغاء وجهه تعالى، ولكى يتحقق هذا فلابد أن ينزع الإنسان الدنيا وملذاتها من قلبه، من مال ومنصب وجاه وغيرهم، فالدنيا لا تساوى جناح بعوضة كما قال الله تعالى، والدليل أن الله يعطيها للكافر والمؤمن على السواء، فلابد لكى نزهد أن ندرك أن الدنيا ليس لها قيمة وسبب ليس أكثر، فقالوا عنها قديمة «الملك لا يساوى ماء أو بولة». فمن المفترض إدراك حقارة الدنيا لأن «الكفن ليس له جيوب»، وليس معنى الزهد أن نترك أعمالنا ونتفرغ فقط للعبادة، فالله أمرنا بالسعى في سبيله والضرب في الأرض بقوله تعالى «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». فالزاهد هو الذي يقنع بما آتاه الله ولا يأسى على ما فاته من الدنيا ولا يعلق قلبه بغير ربه تعالى ويكون بما في يد الله أوثق مما في يده، ويعرض عن كل ما يشغله عن ربه وعبادته، فالزاهد الحق هو من سلك مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمثل هذا هو الزاهد حقا، قال ابن رجب رحمه الله: وقال الفضيلُ بن عياض: أصلُ الزُّهد الرِّضا عَنِ الله عز وجل، وقال: القنوع هو الزهد، وهو الغنى. فكل شيء تملكه لا بد من أن تخسره ساعة الموت، فالذي يجمعه الإنسان في الدنيا من أموال يخسرها عندما يقف قلبه، ولا ينفعه في القبر إلا عمله الصالح، البطل هو الذي يترك الدنيا قبل أن تتركه، لذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح فيها متاعب لا تنتهي؛ فمن عرفها، لم يفرح لرخاء هذا من الزهد، ولم يحزن لشقاء -أن الرخاء مؤقت، والشقاء مؤقت- قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببًا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاَ، فيبتلي ليجزي))، ويقول الله ﴿أإنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾. وما قيمة عدم التعلق بمتاع الدنيا؟ الزهد ما هو إلا طريقة لنيل محبة الله تعالى، فهو عزوف النفس عن الدنيا والنظر إليها بعين الزوال وأنْ تعرض عن ملذاتها، ولكن هذا أيضًا لا يعني أن نعتزل الناس ونبتعد عن المجتمع، أو نصوم الدهر أو نلبس الثياب المرقعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان زاهدًا في حياته الدنيا؛ ومع ذلك كان يلبس الجديد من الثياب ويخالط جميع الأقوام ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور الدين. الرسول صلى الله عليه وسلم كان سيد الزاهدين في الدنيا والمعرض عنها، وقال المظلوم في حديثه: "عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك". والجزاء طبعا يناله في الدنيا بمتاعها، والآخرة بالجنة. وبالنسبة لفعل الخير وإسعاد الآخرين.. فما فائدته في الدنيا والآخرة؟ العطاء دون مقابل سواء من خلال ابتسامة أو مساعدة بسيطة أو مد يد العون لمن يحتاج هو المحبب لله، وفعل الخير يغمر نفس الفاعل بالسعادة والرضا بنفس القدر الذي يسر متلقي الفعل. إن لم تدفعك كل الأسباب لبذل الخير والطيبة مع العالم وكائناته بل وحتى أشيائه، فهذا العامل يمكن أن يحثك على الطيبة وهو "فعل الخير في الحقيقة يجعلك أكثر سعادة"، فمتعة الحياة ولذة العيش سوف تشعر بها كلما قمت بعمل طيب تجاه الآخرين، سواء تلقيت الشكر عليه أو لا، وفي الحقيقة أن سعادتك هي انعكاس لسعادة الآخرين. والسعادة لا تتم إلا إذا اشترك فيها أكثر من شخص، فالإنسان يشعر بالشبع إذا تناول الطعام ولكن لا يشعر بالمتعة والراحة النفسية إلا عند ما يشترك مع الآخرين في الأكل (وخير الطعام ما تكاثرت عليه الأيدي) و(لذيذ العيش أن تشتركا)، فعندما تعطي فأنت تأخذ أيضا، فكلما أعطيت أكثر بأساليبك الفريدة، شعرت بالسعادة في حياتك، وتنتابك مشاعر من السلام. كيف نربى جيلا محبا للخير وإسعاد الغير؟ نربيه بالقدوة وليس بالوعظ، فلا بد أن يرى الأطفال السلوك القويم والأخلاق الحميدة في الوالدين، ومن ثم اتخاذهما قدوة لهم، بجانب التربية بالحال التي هي خير من التربية بالمقال، وحثهم على الاجتهاد في الدنيا، والسعى نحو النجاح والتفوق وإثبات الذات. وهل يُثيب الله من يفعل الخير ولو كان غير مسلم؟ فضل الله واسع على الجميع، فالله يجزى المسلم وغير المسلم في الدنيا والأخرة، ولا يحتكر المسلم جزاء الخير وحده، ففضل الله يسع الجميع. وما الرأى الشرعى في بذخ الأثرياء العرب الذين يهدورن الملايين في النزوات الشخصية وملاذات الدنيا ويمنعونها عن الفقراء؟ يقول الله تعالى «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين»، فهم ينفقون المال في غير وجه الله وهذا حراما شرعًا ومنهى عنه، وليس العرب وحدهم المبذرين، بل نجد المسلمين والمصريين جميعهم كذلك.