"التدنّي الخلُقيْ - ظاهرة السوقية والرعاع" أسبابها... وطرق علاجها، هكذا بدأ الكاتب التربوي الكبير أحمد فوزي السيد تسويد الصفحات التي أمامه ليشترك بها في مسابقة مجلة "الطريق الجديد" التربوية المحكمة علّ جائزتها الكبرى التي يأمل في الحصول عليها تكون سببا في انتشاله من فقره الدكر الذي عشش في أرجاء شقته المتواضعة بعدما ماتت زوجته من شدة الفاقة والمرض، حتى أنه اقترض من معارفه جميعا ليواري جثمانها الثرى بعد أن حجز عليه المستشفى الخاص الذي اضطر إلى أن يذهب بالمرحومة إليه لينقذها من مصيرها المحتوم، دارت كل تلك الأفكار السوداوية في رأسه دفعة واحدة عندما شرع في عمله، ولكنه جاهد نفسه في طردها ليسترسل في الكتابة مسطرا: إِنَّما الأُمَمُ الأَخلاقُ ما بَقِيَت فَإِن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا بداية لا تعجب أيها القارئ الكريم إذا لم تجد المقال الذي تتوقعه عبر السطور التي تطالعها عيناك الآن، فإني وإن كنت أنوي مخاطبتك والولوج إلى مكنونات قلبك عليّ أن ألمس داخلها ذلك الوتر الحساس الذي يحرك المشاعر ويهز الوجدان، إلاّ أنني على يقين أنك تعلم أن من يصرخ من الألم لا يعنيه كثيرا أن يخرج صوته منغمًا رخيم النغمات، فقد وصلنا إلى ما ترى مِن تدّنٍ للأخلاق ظلماتٌ بعضها فوق بعض، لذا آثرت أن أقول ما أريد وليخرج كما يمور به صدري، فالمهم أن تصل صرختي إلى من بيده نجدتي، اخترت أن أتبع الأسلوب العلمي لعرض المشكلة وأسبابها وأخيرا طرق علاجها. المشكلة: لا يمكن لعين مهما عشت قوة إبصارها أن تخطئ ما نحن فيه من تدنٍ خلقي وتبلد عاطفي بل تراجع ذوقي، وإذا ما استعرضت المشكلة طوليا أو عرضيا رأسيا وأفقيا فإنك تجدها أشبه بالحلقة المفرغة التي لا تعرف لها طرفا تمسكها منه، وهي أشبه بتلك الأحجية القديمة التي كان أجدادنا يروونها لنا.. أحجية البيضة والدجاجة، ترى هل وجدت البيضة أولا أم الدجاجة ؟ وبعيدا عن الدجاج وبيضه، فإنك تجد الصغير الذي لا يحترم الكبير، وتجد الكبير الذي لا يرحم الصغير، وتجد القوى الذي يأكل الضعيف، والضعيف الذي يخاف ولا يستحي، وجرائم خلقية متعددة الأشكال والألوان: ابن يقتل أبويه !، زنى بالمحارم، سرقة للجار، تغرير بالصغار.. نصب.. هتك للأعراض...إلخ وهكذا دواليك عقد انفرط ولا خيط يجمعه من جديد ! كل هذا الكم من السوقة والرعاع الذين نكتوي بنارهم صباح مساء ؟!! والعجيب في الأمر أنه يغيب عن الجميع أننا أمة بعث رسولها صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق !!! وإذا ما أردنا أن نضع سؤالا بحثيا على الطريقة العلمية فإننا نسأل هل نحن إزاء أزمة للأخلاق ؟ في هذه الأثناء كانت أم باتعة صاحبة البيت تطرق باب شقته بكل قوة طالبة إيجارها المتأخر لأكثر من ثلاثة شهور، آخذة في توعده بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولكنه آثر أن يتجاهلها ويمضي قدما في مقاله الهام، بينما التقطت أذناه آخر كلماتها التي كانت تلقيها بعصبية بالغة أسفل السلم: بقى عامل نفسك مش سامع يا الدلعادي طيب استنى بقى لما أجيب لك هشام وسامح يتفاهموا معاك يا حيلتها... مضى الكاتب الكبير في مقاله شارحا بإسهاب علمي أسباب الأزمة من وجهة نظره وطرق علاجها، وبينما كان يكتب آخر سطور مقاله استعدادا لوضعه في المظروف الذي سيرسله فيه للمجلة، كان باب شقته قد طار من مكانه إثر اقتحامه من سامح وهشام أولاد أم باتعة اللذين لم يعطياه فرصة لشرح موقفه أو استعطافهما ليمهلاه شهرا آخر ربما يفوز فيه بالجائزة الكبرى ويسدد لهما ما عليه من ديون، لترصده عدسات المجلات والصحف التي كان يراسلها - وهو يأكل من صناديق القمامة مستلقيا على الرصيف يعتمر الذباب معظم وجهه ولحيته الكثة - تحت عنوان أحمر بالبنط العريض "نهاية كاتب حاول أن يتصدى لأزمة الأخلاق" ؟!!