بايدن: نبذل كل ما في وسعنا لإنهاء الحرب على غزة    الحوثيون: تنفيذ 3 عمليات عسكرية ضد مدمرة أمريكية وسفينتين فى البحرين الأحمر والعربى    إريكسن أفضل لاعب في مباراة سلوفينيا ضد الدنمارك ب"يورو 2024"    تعادل منتخب الدنمارك مع نظيره السلوفيني بنتيجة 1 – 1 ضمن المجموعة الثالثة في يورو    بوفون: إسبانيا منتخب صلب.. وسيصل القمة بعد عامين    موعد مباراة البرتغال والتشيك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة والمعلق    إقبال كبير لرحلات اليوم الواحد على شواطئ رأس البر    الحج السعودية: وصول ما يقارب 800 ألف حاج وحاجة إلى مشعر منى قبل الفجر    توفير 10 سيارات مياه ب 4 مناطق في الهرم بأول أيام عيد الأضحى (صور)    أول أيام عيد الأضحى المبارك.. سينمات وسط البلد كاملة العدد | فيديو    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    الرياضة: حملة بشبابها تشارك في احتفالات عيد الأضحى وزيارات للمحافظين للتهنئة    "Inside Out 2" يزيح "Bad Boys 4" من صدارة شباك التذاكر الأمريكي    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    وكيل «صحة كفر الشيخ» يتابع انتظام العمل بالمستشفيات في أول أيام عيد الأضحى    «أتوبيس الفرحة».. أمانة شبرا بمستقبل وطن توزع 3000 هدية بمناسبة عيد الأضحى| صور    سويسرا تعتزم إجراء محادثات مع روسيا بعد قمة السلام بشأن أوكرانيا    الغندور ينتقد صناع "أولاد رزق" بسبب "القاضية ممكن"    الدراما النسائية تسيطر على موسم الصيف    ريهام سعيد تبكي على الهواء (تعرف على السبب)    «العيدية بقت أونلاين».. 3 طرق لإرسالها بسهولة وأمان إلكترونيا في العيد    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    مرور مكثف على مكاتب الصحة ومراكز عقر الحيوان بالإسماعيلية    في أقل من 24 ساعة.. "مفيش كدة" لمحمد رمضان تتصدر التريند (فيديو)    وزير الداخلية الباكستاني يؤكد ضمان أمن المواطنين الصينيين في بلاده    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    التصعيد مستمر بين إسرائيل وحزب الله    لتحسين جودتها.. طبيبة توضح نصائح لحفظ اللحوم بعد نحر الأضحية    قصور الثقافة بالإسكندرية تحتفل بعيد الأضحى مع أطفال بشاير الخير    موراي يمثل بريطانيا في أولمبياد باريس.. ورادوكانو ترفض    عيد الأضحى 2024.. اعرف آخر موعد للذبح والتضحية    وصية مؤثرة للحاجة ليلى قبل وفاتها على عرفات.. ماذا قالت في آخر اتصال مع ابنها؟    قرار عاجل في الأهلي يحسم صفقة زين الدين بلعيد.. «التوقيع بعد العيد»    وفاة ثانى سيدة من كفر الشيخ أثناء أداء مناسك الحج    يقام ثاني أيام العيد.. حفل أنغام بالكويت يرفع شعار "كامل العدد"    تقارير: اهتمام أهلاوي بمدافع الرجاء    هالة السعيد: 3,6 مليار جنيه لتنفيذ 361 مشروعًا تنمويًا بالغربية    «سقط من مركب صيد».. انتشال جثة مهندس غرق في النيل بكفر الزيات    ضبط 70 مخالفة تموينية متنوعة فى حملات على المخابز والأسواق بالدقهلية    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    روسيا: مقتل محتجزي الرهائن في أحد السجون بمقاطعة روستوف    القوات الروسية تحرر بلدة «زاجورنويه» في مقاطعة زابوروجيه    3 فئات ممنوعة من تناول الكبدة في عيد الأضحى.. تحذير خطير لمرضى القلب    رئيس دمياط الجديدة: 1500 رجل أعمال طلبوا الحصول على فرص استثمارية متنوعة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الأحد 16 يونيو 2024    عيد الأضحى 2024.. "شعيب" يتفقد شاطئ مطروح العام ويهنئ رواده    قائمة شاشات التليفزيون المحرومة من نتفليكس اعتبارا من 24 يوليو    النمر: ذبح 35 رأس ماشية خلال أيام عيد الأضحى بأشمون    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    بالصور.. محافظ الغربية يوزع هدايا على المواطنين احتفالا بعيد الأضحى    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد ناصر الكبير    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    محافظ كفرالشيخ يزور الأطفال في مركز الأورام الجديد    ما هي السنن التي يستحب فعلها قبل صلاة العيد؟.. الإفتاء تُجيب    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    ارتفاع نسبة الرطوبة في الجو.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هذا نبينا.. قدوتنا.. ومعلمنا.. «ثلاثة أيام في حياة النبي محمد»
نشر في التحرير يوم 23 - 01 - 2015


كتب حاتم صادق
مولده.. خرج من بطن أمه كالشمس البهية وتلقته أم عبد الرحمن بن عوف
1- يوم الميلاد
اختلف المؤرخون وأصحاب السير فى تحديد يوم وشهر ولادة النبى صلى الله عليه وسلم، وهو أمر له سببه المعقول، إذ لم يُعلم ما سيكون لهذا المولود من شأن أو خطر، فكان حاله كحال غيره من المواليد، ولذا لم يكن لأحد أن يجزم على وجه اليقين بوقت ميلاده صلى الله عليه وسلم.
لكن ما قد يكون موضع التوافق هو ما ذهب معظم العلماء إلى القول بمولده عام الفيل، وأيدتهم الدراسة الحديثة التى قام بها باحثون مسلمون ومستشرقون اعتبروا عام الفيل موافقا لعام 570م، أو 571م، والأول هو الأرجح.
ومن الطبيعى والمعقول أن يكون يوم ميلاد النبى (ص) مناسبة طيبة ومثيرة لمشاعر الكتّاب وخيال الشعراء ممن أحبوا هذا النبى ووقعوا فى غرام شخصه وسيرته.
ووفقا لما أورده الدكتور عباس الجرارى فى كتابه الأدب المغربى من خلال ظواهره وقضاياه ، فإن أول ما ظهر من شعر المديح النبوى ما قاله عبد المطلب إبان ولادة حفيده محمد:
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض.. وضاءت بنورك الأفق
فنحن فى ذلك الضياء وفى النور.. وسبل الرشاد نخترق
وكما هو معروف، فمصر الفاطمية هى الأسبق إلى الاحتفال بالمولد النبوى الكريم، وغالبا ما كانت تشيع فى هذا الاحتفال روح البهجة والأنس والإسراف، وقد انتقل هذا التقليد من الدولة إلى الأفراد والعائلات، فحرص كثير من الأسر المصرية على إحياء ليلة المولد، باستدعاء القارئين لتلاوة القرآن الكريم ومعهم المنشدون الذين يتميزون بالأداء الغنائى لما كتبه المحبون فى وصف تلك الليلة وفى وصف الصفات الخِلقية والسجايا الخُلقية للمحتفى به نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وقد ذاع التأليف فى هذا الضرب ذيوعا كبيرا، ولكن الذى تعشقته العامة واستقر فى وجدانها وعقلها الجمعى، ودار على ألسنة المنشدين، هو ما كتبه المناوى المصرى والبرعى اليمنى والبرزنجى العراقى.
ولأن الفنون أذواق، فقد عرف كل إقليم من أقاليم مصر باختيار مولد خاص من هذه الثلاثة لا يتعداه، لأن الأبناء غالبا ما يعتادون ما تبناه الآباء والأجداد، فإذا اشتهر مولد المناوى مثلا فى قرية فإن اعتياد العامة عليه يجعله شيئا مقررا، يظل يتردد على الألسنة جيلا بعد جيل.
ويلاحظ فى جميع ما كتب فى هذا الصدد القدرة على التأثير والإمتاع، حيث اقتران الحقيقة بالوهم وامتزاج المعقول باللامعقول، وسيطرة الخيال والروح الأدبية وربما بعض الأساطير، تصويرا لما امتلأت به ليلة الميلاد من عجائب شهدتها مكة، وعجبت لها آمنة، وتأثرت بها بعض الظواهر الكونية، ودهش لها الناس فى الشرق والغرب.
وفى تقديرى الشخصى أن (مولد المناوى) بأسلوبه الرفيع والرائق هو الأجمل والأفضل من بين الثلاثة الذين كتب لهم ذيوع الصيت والانتشار.. وهذا يتبدى من اللحظة الأولى لقراءته إذ يستهل الرجل كلامه بتلك الافتتاحية البسيطة والمؤثرة:
الحمد لله الذى أنار الوجود بطلعة خير البرية، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، قمر الهداية وكوكب العناية الربانية، مصباح الرحمة المرسلة وشمس دين الإسلام، من تولاه مولاه بالحفظ والحماية والرعاية السرمدية، وأعلى مقامه فوق كل مقام، وفضله على الأنبياء والمرسلين ذوى المراتب العلية، فكان للأولين مبدأً وللآخرين خير ختام، وشرّف أمته على الأمم السابقة القبلية فنالت به درجة القرب والسعادة والاحترام، وأنزل تشريفها فى محكم الآيات القرآنية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) فما أعذب هذا الكلام .
ثم ينتقل بنا المؤلف العاشق محلقا بخياله غير المحدود إلى ليلة الميلاد:
ولما جاء شهر ربيع الأول الذى فتح الله فيه أبواب العطية، وطلعت فيه شموس الإيمان وفتحت كنوز الإنعام، حضرت ليلة مولده المنيرة القمرية، واشتد بآمنة الطلق بلا وجع ولا أسقام، وكانت السيدة وحيدة فى منزلها فدخلت عليها النسوة الحورية، ومعهن آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران فبدأنها بالتحية والسلام، وأقبلت حواء فى جماعة وجاءت سارة الخليلية، وهن يهنئنها بأحسن تهنئة لأجل اغتنام، وفتحت أبواب السماء ونزلت الملائكة الروحانية، وأقبل الأمين جبريل فى كوكبة من الملائكة وبيده ثلاثة أعلام، ودقت طبول الأفراح فى السماوات والأرض وعبقت روائح الطيب بين العوالم الجبروتية، وتعطر الملأ الأعلى بعنبر لحظات أوقاته العظام. وتلألأت الكائنات بطوالعه السعودية، وافتخرت الخلائق بقدومه والعرب والأعجام، ورأت أمه نورا خرج منها أضاء الأرجاء العلوية والسفلية، وتدلت الكواكب من السماوات وأقبل إلى بيت آمنة الغمام، ورأت من يقول لها ستضعين خير أهل الأرضين والسماوات العلوية، فإذا وضعتِه فسمِّه محمدا ليحمد فى الدنيا ويوم الزحام، ولم تزل السيدة تشاهد من غرائب معجزاته أمورا نورانية، ومن عجيب آياته ما لا تحيط به العقول والأفهام، وذلك فى ليلة الإثنين من بعد العشاء إلى طلوع اللمعة الفجرية، فأخذها المخاض ووضعته صلى الله عليه وسلم نورا يتلألأ كالبدر ليلة التمام، ويجب علينا معشر الحاضرين والسامعين القيام عند ذكر مولده الشريف تعظيما لقدوم ذاته البهية، فيا سعادة من وقف تعظيما له على الأقدام.
ولما بدا من بطن أمه كالشمس البهية، سقط على يد أم عبد الرحمن بن عوف أحد البررة الكرام، فسجد لمولاه على الأرض وأومأ بطرفه إلى السماء العلية، وفى ذلك الرفع إشارة إلى علو قدره والمقام، ثم عطس فقال الحمد لله بفصيح العربية، فقالت له الملائكة يرحمك ربك يا خير الأنام، ثم غشيته سحابة من النور فأخذته الملائكة فغيبته عن أمه ساعة زمنية، وطافوا به جميع الكائنات فعرفه أهل السموات والأرضين وكل منهم فى محبته هام، ثم ردته الملائكة إلى أمه وهو ملفوف فى ثياب خضر سندسية، وملك يقول يا عز الدنيا ويا شرف الآخرة من قال بمقالتك وشهد بشهادتك حشر تحت لوائك يوم الزحام. وولد نبينا صلى الله عليه وسلم ظريفا مختونا مسرورا مكحول العينين بكحل العناية الربانية، كامل الجمال مستورا بالهيبة والجلال التام، متخلقا بأخلاق الأنبياء من فصاحة وفطانة وسخاوة ندية، وقوة وشجاعة وعفة وسماحة وحسن قوام، وقيل ختنه جده عبد المطلب يوم سابع ميلاده وسماه محمدا وصنع وليمة وبذل فيها همته الجهدية، فسئل عن ذلك فقال رجوت أن يحمد فى السموات والأرض، وقد حقق الله رجاءه وما رام.
اللهم عطّر قبره بالتعظيم والتحية واغفر لنا ذنوبنا والآثام .
وفى مولد البرزنجى:
وبرز صلى الله عليه وسلم واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء العلية، مومئا بذلك الرفع إلى سؤدده وعلاه، ومشيرا إلى رفعة قدره على سائر البرية، وأنه الحبيب الذى حسنت طباعه وسجاياه، ودعت أمه عبد المطلب وهو يطوف بهاتيك البنية، فأقبل مسرعا ونظر إليه وبلغ من السرور مناه، وأدخله الكعبة الغراء وقام يدعو بخلوص النية، ويشكر الله تعالى على ما مَنّ به عليه وأعطاه، وولد صلى الله عليه وسلم نظيفا مختونا مقطوع السر بيد القدرة الإلهية، طيبا دهينا مكحولة بكحل العناية عيناه، وقيل ختنه جده عبد المطلب بعد سبع ليال سوية، وأولم وأطعم وسماه محمدا وأكرم مثواه.
عطّر اللهم قبره الكريم، بعرف شذى من صلاة وتسليم، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه .
وبمرور الزمن وبتوالى التأليف والإبداع فى هذا الموضوع وبتلك الطريقة التى يتجاور فيها الواقع والخيال والموضوعى واللاموضوعى وما حدث وما لم يحدث، ارتأت وزارة الأوقاف فى عهد الأستاذ محمد نجيب الغرابلى أن تدعو سنة 1934 إلى تأليف مولد عصرى يُرضى حاجة الذهن المثقف، ويتحرى الأخبار الصادقة والموثقة عن حياة النبى، وقد أعدت لذلك جائزة أدبية ذات قيمة مالية كبيرة.. وقد اعترض على ذلك الدكتور طه حسين وسجل اعتراضه هذا فى مقال بجريدة الوادى أول أغسطس سنة 1934، جاء فيه:
... فأى بأس على المسلمين فى أن نتحدث إليهم بأن أمم الطير والوحش كانت تختصم بعد مولد النبى لتتولى كفالته؟ وأى بأس على المسلمين فى أن يسمعوا أن الجن والإنس والحيوان تباشرت بمولد النبى؟ وأن الشجر أورق لمولده؟ وأن الروض ازدهى لمقدمه؟ وأن السماء دنت من الأرض حين مس الأرض جسمه الكريم؟ لم تصح الأحاديث بشىء من هذا، ولكن الناس يحبون أن يسمعوا هذا، فأى بأس على المسلمين فى أن يسمعوا أن نفرا من الملائكة أقبلوا إلى النبى وهو طفل يلعب، فأضجعوه، وشقوا عن قلبه وغسلوه حتى طهروه، ثم ردوه كما كان؟ إن من فاحش الخطأ أن يُضيق على الجماهير، حتى فى القصص البرىء، وإن من فساد الذوق أن لا يباح للجماعات إلا الحق الذى لا حظ للخيال فيه!... وإن من سوء العناية بالدين أن يكف الخيال عن تأييد الدين .
وهنا قد يكون مفيدا الرجوع إلى الجزء الأول من على هامش السيرة وما كتبه طه حسين بكلماته الحلوة المنغمة وبيانه الساحر عن المولد النبوى تحت عنوان (اليتيم):
هنالك دعت إليها من حضرها من نساء بنى هاشم، فأسرعن إليها، وقضين معها ليلة لا كالليالى، أنكرن فيها كل شىء، وعجبن فيها بكل شىء، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين ما لم يرَ أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، ولم تكن آمنة أقلهن إنكارا وإكبارا وإعجابا، فقد كانت ترى وهى يقظة غير نائمة أن نورا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينها، وكانت تنظر فترى قصور بصرى فى أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى فى أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن يُنكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شىء حتى تراه نورا كله لا ظلمة فيه، وإنما هو مُشرق مضىء، أو هو الإشراق الخالص، وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض، وتمد إليها أشعة قوية نقية باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وأن تقع عليها... وكذلك لم تدنُ السماء من الأرض كما دنت فى هذه الليلة، وكذلك لم يرَ الناس من الأعاجيب كما رأى هؤلاء النساء فى هذه الليلة، ولم تكن آمنة على هذا كله تجد ألما قليلا أو كثيرا، إنما كشف عنها كل حجاب ورفع عنها كل غشاء، وخلى بينها وبين عالم من الجمال الذى يرى والجمال الذى يسمع، لا عهد للناس بمثله.. .
2- يوم وفاة إبراهيم
رزق النبى صلى الله عليه وسلم بسبعة أبناء.. ثلاثة من الذكور وهم:
- القاسم رضى الله عنه، أول أولاده من زوجته خديجة بنت خويلد. ولد له قبل النبوة ومات بعد أن بلغ سنا تمكنه من المشى، غير أن رضاعته لم تكن قد اكتملت. ويُقال إنه توفى سنة 605م قبل أن يتم عامه الثانى، ودفن فى مقبرة جندول مولالا فى مكة المكرمة.
- عبد الله رضى الله عنه، أمه السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وهو أصغر أبنائهما بعد زينب والقاسم ورقية وأم كلثوم وفاطمة. لُقب بالطاهر والطيب لمولده بعد النبوة، وتوفى صغيرا فى طفولته فى مكة.
- إبراهيم رضى الله عنه، وأمه مارية القبطية.
كما رُزق صلى الله عليه وسلم بأربع بنات وهن:
- السيدة زينب رضى الله عنها، وكانوا يسمونها زينب الكبرى لأنها أول مولود لرسول الله وتمييزا لها عن زينب الحفيدة ابنة شقيقتها فاطمة الزهراء رضى الله عنها وبنت الإمام على كرم الله وجهه.
- السيدة رقية رضى الله عنها.
- السيدة أم كلثوم رضى الله عنها.
- السيدة فاطمة الزهراء رضى الله عنها.
وقد ماتوا جميعا فى حياة رسول الله عدا فاطمة الزهراء، فهى التى ماتت بعد وفاته بستة أشهر.. وجميع أبناء الرسول من خديجة بنت خويلد رضى الله عنها، عدا إبراهيم فهو من مارية القبطية.
فى قرية عتيقة من صعيد مصر تدعى حفن بمحافظة المنيا وُلدت مارية بنت شمعون لأب قبطى وأم مسيحية رومية، وفى مطلع شبابها الباكر انتقلت مع أختها سيرين إلى قصر المقوقس عظيم القبط بمصر.. وكانت فى القصر حين قدم حاطب بن أبى بلتعة موفدا من النبى محمد يحمل رسالة إلى المقوقس، وكان ذلك سنة 7 ه. أخذ المقوقس كتاب النبى محمد بن عبد الله وختم عليه، وكتب إلى النبى:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا بقى، وكنت أظن أنه سيخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها والسلام عليك .
كانت الهدية جاريتين هما مارية بنت شمعون القبطية وأختها سيرين بنت شمعون، وألف مثقالٍ ذهبا، وعشرين ثوبا، وبغلة تسمى دلدل ، وعبدا خصيا يسمى مابور ، وبعضا من عسل بنها. وفى المدينة اختار الرسول مارية لنفسه، ووهب أختها سيرين لشاعره حسان بن ثابت الأنصارى.
وكما جاء فى طبقات ابن سعد والإصابة لابن حجر، فقد كانت مارية بيضاء جميلة الطلعة، وقد أثار قدومها الغيرة فى نفس عائشة، فكانت تراقب مظاهر اهتمام النبى بها. وقالت عائشة: ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة جعدة فأعجب بها رسول الله وكان أنزلها أول ما قدم بها فى بيتٍ لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، حتى فرغنا لها، فجزعت فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشد علينا .
بعد مرور عام على قدوم مارية إلى المدينة، حملت مارية، وفرح النبى محمد لسماع هذا الخبر، فقد كان قارب الستين من عمره وفقد أولاده ما عدا فاطمة الزهراء. وولدت مارية فى شهر ذى الحجة من السنة الثامنة للهجرة النبوية طفلا جميلا يشبه الرسول، وقد سماه إبراهيم، تيمنا بأبيه إبراهيم خليل الرحمن، وبهذه الولادة أصبحت مارية حُرة.
وعاش إبراهيم ابن النبى سنة وبضعة أشهر يحظى برعاية أبيه، ولكنه مرض قبل أن يكمل عامه الثانى، وذات يوم اشتد مرضه فجاءه النبى معتمدا على يد عبد الرحمن بن عوف لشدة ألمه فحمله وهو يجود بنفسه، وقال فى تسليم وأسى: إنا يا إبراهيم لا نغنى عنك من الله شيئا ، ويكمل أنس بن مالك بقية المشهد الذى رواه البخارى ومسلم: فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تدمعان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا ابن عوف، إنها رحمة ثم أتبعها أخرى فقال: إن العين تدمع وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .
ومات إبراهيم وهو ابن ثمانية عشر شهرا، وكانت وفاته يوم الثلاثاء لعشر ليال خلت من ربيع الأول سنة عشر من الهجرة على الأرجح. وحزنت مارية حزنا شديدا على موت إبراهيم. ونظر النبى إليها بعطف وحنان وقال لها مواسيا ومعزيا: إن إبراهيم ابنى، وإنه مات فى الثدى، وإن له لظئرين تكملان رضاعه فى الجنة .. قال النووى: فترضعانه بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن.
ثم أقبل الفضل بن العباس وقام بتغسيل الصغير المتوفى، وحمل من بيت مرضعه، على سرير صغير، وصلى عليه أبوه صلى الله عليه وسلم أربعا، ثم سار وراءه إلى البقيع ونزل قبره الفضل بن العباس مع أسامة بن زيد وأضجعاه إلى مثواه الأخير، ثم سوى عليه التراب وندى بالماء.
وعند العودة من الدفن غام الأفق وانكسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم! وبلغت الكلمة مسمع النبى فسارع ليصلى بالناس صلاة الكسوف ثم خطب فيهم قائلا: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته.
ولم تطُل أيام النبى فى الدنيا بعد وفاة ابنه إبراهيم فى السنة العاشرة للهجرة، فما إن جاء ربيع الأول من السنة التالية حتى شكا النبى (ص) ثم لحق بالرفيق الأعلى.. أما مارية فقد عاشت من بعده خمس سنوات من العزلة شبه الكاملة، لا تكاد تلقى أحدا غير أختها سيرين، ولا تكاد تخرج إلا لكى تزور مثوى زوجها الحبيب، أو قبر صغيرها الغالى بالبقيع! وتوفيت فى السنة السادسة عشرة من محرم. ودعا عمر بن الخطاب الناس وجمعهم للصلاة عليها، فاجتمع عدد كبير من الصحابة من المهاجرين والأنصار ليشهدوا جنازة مارية القبطية، ودفنت إلى جانب نساء أهل البيت النبوى، وإلى جانب ابنها إبراهيم.
3- يوم الوداع
بعد أن فرغ النبى صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، تلك الحجة التى سماها المسلمون بذلك الاسم لأنه صلى الله عليه وسلم توفى بعد أن أداها بوقت قليل، توعكت صحته عقب رجوعه إلى المدينة واعتل بدنه وبدأ يشكو من المرض.
وفى ليلة من ذات الليالى خرج النبى صلى الله عليه وسلم وبصحبته خادمه أبو مويهبة إلى بقيع الغرقد فاستغفر إلى أهل البقيع قائلا: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه.. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها. والآخرة شر من الأولى .
وعقب رجوعه من البقيع انتابه صداع شديد، فلما دخل على السيدة عائشة وجدها تشكو رأسها وتقول: وا رأساه!! ، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا والله يا عائشة وا رأساه .. ثم ثقل على الرسول الوجع وانتابته الحمى.
وتروى كتب السيرة النبوية أنه لما اشتد عليه المرض ولم يستطع أن يخرج للصلاة قال: مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس .
وفى يوم من أيام المرض اشتاقت نفسه إلى الصلاة بالمسجد فطلب من أهله أن يصبّوا عليه سبع قرب من الماء ليتمكن من الخروج.. وبالفعل خرج وهو معصوب الرأس مستندا على الفضل بن العباس وعلِىّ بن أبى طالب، وبعد أن صلى بالناس صعد إلى المنبر واستغفر لأصحاب أُحُد ثم قال: من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منى (أى يقتص منى)، ومن كنت شتمت له عِرضا فهذا عرضى فليستقد منى، ومن أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قِبلى فإنها ليست من شأنى .. فادّعى عليه رجل بثلاثة دراهم، فأعطاها له قائلا: ألا إن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة .
وفى فقرة تصل إلى قمة الذروة فى التأثير والتأثر واصل النبى قائلا: إن عبدا من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وما عند الله، فاختار ما عند الله .
فبكى أبو بكر وقال: فديناك بأنفسنا وآبائنا يا رسول الله ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يبقين بالمسجد باب إلا باب أبى بكر، فإنى لا أعلم أحدا أفضل الصحبة منه، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام .
ومرت أيام وكانت الخاتمة عندما ثقلت عليه الحمى فأتى له بقدح فيه ماء فجعل يأخذ الماء بيده ويمسح به وجهه ويقول: اللهم أعنّى على سكرات الموت... اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل... اللهم فأعنّى على الموت وهوّنه علَىّ .
وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعالج سكرات الموت ويدخل فى غمراته. قالت السيدة عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول صلى الله عليه وسلم، ولا أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذى رأيته من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفى تعليل ما لاقاه النبى صلى الله عليه وسلم من ألم فى أثناء الاحتضار هناك ثلاثة آراء للعلماء:
الأول: تسلية أمته صلى الله عليه وسلم إذا وقع لأحدهم شىء من ذلك فى تلك اللحظات الرهيبة.
الثانى: أن مزاجه الشريف أعدل الأمزجة ومن ثم فإحساسه صلى الله عليه وسلم بالوجع أكثر من غيره.
الثالث: ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه من أنه دخل على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فقال: يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا ، قال: أجل، إنى لأوعك كما يوعك الرجلان منكم ، فقال ابن مسعود: إن لك لأجرين؟ ، قال: نعم .
وكانت آخر كلمة نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فى حجر زوجته عائشة: بل الرفيق الأعلى من الجنة ، فأدركت عائشة المراد وقالت: خُيّرتَ فاخترتَ .
وقُبض رسول الله وصعدت أطهر الأرواح وأشرفها إلى بارئها. وبموته صلى الله عليه السلام خُتمت النبوّات، وانقطع خبر السماء ووحى الله عن الأرض، وانتهت المعجزات الحسية ليبدأ عهد يكون على البشرية أن تعتمد فيه على العقل والتفكر والإبداع استجابة لما ورد فى كتاب ربهم الكريم ومعجزة نبيهم الكبرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.