رغم أنه محصن من الحل والتجميد بنص القانون ضربات أمنية متتالية تسقط حزب المعارضة في مستنقع التجميد.. واستجواب ممدوح سالم أول مسمار في نعش التجربة التعددية الثانية إقالة رئيس تحرير أول صحيفة حزبية بقرار من السادات مصطفى كامل مراد يخوض معركة استرداد الحزب من الشارع ووزير الداخلية يعتذر عن خطأ تقارير أمن الدولة الدفع بعناصر أمنية كان شعار مرحلة مبارك لاختراق الأحزاب وتفخيخها.. ولجنة شئون الأحزاب لعبت دورا خطيرا صحيفة الأحرار أقلقت السلطة عندما تحولت إلى منبر للوفديين والناصريين والشيوعيين اللعب في الأحزاب قبل أن تقرأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة كان واحدًا من أهداف ثورة يوليو عام 1952م عندما قرر مجلس قيادة الثورة اغتيال النموذج التعددى في ذلك الوقت.. مضت السنوات تهضمها سنوات دون أن تقام حياة ديمقراطية سليمة وتحت وطأة الحرب لم يستطع أحد أن يذكر الثوار بما قطعوه على أنفسهم حتى جاء السادات إلى سدة الحكم. بعد انتصار أكتوبر المجيد كان الرئيس السادات قد فكر وتدبر وقرر أن يعيد التعددية إلى الحياة السياسية بتحويل المنابر الثلاثة إلى كيانات حزبية.. حزب مصر.. حزب التجمع.. حزب الأحرار.. هكذا عادت الحياة الحزبية قبل أن تطوى السبعينيات صفحاتها بثلاث سنوات وهكذا ولدت التجربة التعددية الثانية من رحم النظام.. ولدت مبتورة تشوهها عيوب خلقية بدت واضحة عندما قرر صاحب التجربة التعددية الثانية إقالة رئيس تحرير الأحرار مرددًا: "أنتم صدقتم ولا إيه؟"!! عبد الناصر اغتال التجربة الأعمق في تاريخ البلاد.. السادات قرر تصفية حزب مصر بتكوين الحزب الوطنى الديمقراطى.. مبارك وضع أصول اللعب الأمني في الأحزاب وعندما احتاج إليها بعد أيام من 25 يناير لم يجد إلا سرابا وتيارات ظلامية استطاعت أن تسيطر على الأرض وبدا أن محاصرة الأحزاب كان لحساب الإخوان وقوى الإسلام السياسي الأخرى عن جهل من النظام أو عمد، فكانت ثورة 25 يناير إشارة بدء النموذج التعددى الثالث والذي بدا واضحًا أنه ليس بعيدًا عن فكرة التفخيخ باستخدام نفس السيناريوهات القديمة التي ابتكرها مبارك وحافظت عليها الدولة العميقة.. ظهر ذلك جليًا في عدد من الأحزاب حيث تم استدعاء نفس الأساليب المباركية. اللعب في الأحزاب حلقات ترصد بدقة ما جرى في بحر السياسة منذ أيام السادات وحتى عهد السيسي. واحد من ثلاثة أحزاب نشأت التجربة التعددية الثانية عليها.. هذا هو حزب الأحرار الذي قاده وتزعمه أحد أهم الضباط الأحرار، الزعيم مصطفى كامل مراد - عليه رحمة الله- ولأنه كان واحدا من الأحزاب الثلاثة التي اعتبرت نواة للتجربة الثانية، فقد نصت المادة 30 من قانون تنظيم الأحزاب السياسية على عدم جواز حل أي منهم باعتبارهم ورثة الاتحاد الاشتراكى العربى، ورغم ذلك لم يسلم حزب الأحرار من فكرة العبث السلطوى بمقدراته، فعاش واحدة من أهم تجارب النضال السياسي ضد تدخل الدولة على مدار تاريخه ولا يزال. أنشئ حزب الأحرار الاشتراكيين عام 1977م كواحد من ثلاثة منابر هي: "حزب مصر العربى الاشتراكى، الذي تناولنا قصة الانقضاض عليه وتصفيته رغم الحصانة القضائية في العدد الماضي، وحزب التجمع الاشتراكى الذي عانى هو الآخر من الحصار الحكومى لتجربته ومحاولة النيل من دوره، وحزب الأحرار موضوع حلقة اليوم". مع أول انتخابات برلمانية حصل حزب الأحرار الاشتراكيين على ثمانية عشر عضوا من بين أنياب الأسد عام 1978م ليصبح تاريخيا أول حزب يتزعم المعارضة، وأصبح مصطفى كامل مراد هو أول زعيم للمعارضة في التجربة التعددية الثانية، وأراد بحسن نية أن يمارس هذا الدور فأصدر صحيفة الأحرار أول صحيفة معارضة، حتى أن العامة أطلقوا عليها صحيفة المعارضة وكانت أعدادها تحجز لدى باعة الصحف قبل صدورها بأسبوع. استطاع حزب الأحرار أن يحرك المياه الراكدة في بحيرة الحياة الحزبية بعدد من نواب البرلمان والقادة السياسيين الذين أيقظوا في نفوس المصريين إحساسا جديدا بجدية التجربة وقدم للحياة السياسية عددا لابأس به من شباب وقادة العمل السياسي، كان على رأسهم الدكتور أحمد درويش وزير الصحة الأسبق عليه رحمة الله، والنائب الشاب محمد عبد الشافى واللواء صلاح الرفاعى عليهم جميعا رحمة الله. وتمكن حزب الأحرار أن يهز عرش السلطة في وقت وجيز باستجوابات كانت حديث الساعة في ذلك الوقت، ساعده في ذلك وجود صحيفة قوية قادها الصحفى الأنشط صلاح قبضايا، الذي تولى رئاستها بعد هروب الصحفى المتأنق جلال الدين الحمامصى من رئاستها بعد ضغوط أمنية وسلطوية، وكان استجواب "القطن" هو أول مصدر إزعاج حقيقى للسلطة عندما صدرت جريدة الأحرار ولأول مرة في تاريخ الحياة السياسية بعد ثورة يوليو تحت عنوان "محاكمة ممدوح سالم رئيس الحكومة". كان العنوان كفيلا بتوزيع أعداد الصحيفة كاملة مع إصدار طبعة ثانية، فظهر على السطح ولأول مرة عبارة "صحيفة تصدر حزبا" بسبب قسوتها في النقد وموضوعية تناولها بالمستندات التي قدمت في هذا الاستجواب.. كان عمر الصحيفة ستة أشهر فقط عندما اتصل الرئيس الراحل محمد أنور السادات برئيس الحزب مصطفى كامل مراد قائلا له: أنتم صدقتم يا مصطفى ولا إيه..؟!! كان مصطفى كامل مراد يعتقد بضرورة الممارسة الحقيقية، متحدثا في جل خطابه السياسي بالتداول السلمى للسلطة حتى قبيل هذا الاتصال الذي طالب فيه الرئيس بتغيير رئيس تحرير الصحيفة، فكانت الضربة الأولى.. أراد مصطفى كامل مراد أن يتعامل بذكاء مع أوامر رئيس الدولة فأصدر قرارا بتعيين الأستاذ محمد الغلبان رئيسا لتحرير الصحيفة مع تعليمات بأن يصدر صلاح قبضايا الصحيفة، ويراجعها من منزله.. بعد عددين اتصل السادات مرة ثانية طالبا وبحسم إقالة صلاح قبضايا، وعندما قال له مراد إنه أقاله بالفعل كان رد السادات: لا يزال قبضايا هو رئيس التحرير!! لم يعد هناك هروب ولا ملجأ من الاستغناء عن صلاح قبضايا، وظلت الأمور بين جذب وشد حتى موعد الانتخابات التالية عندما خرج حزب الأحرار صفر اليدين منها، وبعدها بقليل أصدر الرئيس السادات قرارا بتعيين خمسة من قادة الحزب بمجلس الشورى، إمعانا في وضعه تحت السيطرة.. مرت الأحداث مملة على قادة الحزب الواعد بين محاولات أمنية لإدخال عناصر تابعة لهم بين قادته ومحاولات اختراق أخرى بتقارير مكذوبة. حاول مصطفى مراد أن يقدم للحياة الحزبية لونا جديدا من الدعم، فحول صحيفة الأحرار إلى واحد من أهم المنابر لتيارات سياسية ليست لديها منصات للتعبير عن أنفسها، فاستضافت الصحيفة قادة حزب الوفد فأصبح ممتاز نصار كاتبا بها مع إجراء حوارات صحفية مكثفة مع "الباشا فؤاد سراج الدين"، كما استضافت التيار الناصرى وأصبح ضياء الدين داوود واحدا من كتابها، كما وجد الشيوعيون ضالتهم المنشودة في صحيفة المعارضة التي اتسعت صفحاتها لتصبح لسان حال من ليس لديه منبر يطل به على الجماهير. رحل السادات الأب الرسمى للتجربة، وجاء مبارك ليفتح صفحة جديدة مع التيارات السياسية ولكن وفق أجندة مختلفة تماما تقوم على الاختراق الأمني الكامل بعناصر تابعة للأجهزة الأمنية، فكانت أولى بروفات الصدام مع حزب الأحرار تحت شعار "كلاكيت ثانى مرة" بعد صدور الأحرار يومية برئاسة تحرير مصطفى بكرى ومع نهايات عام 1994م. كانت جريدة الأحرار قد كشفت عن واقعة تعذيب حتى الموت للمحامى المعروف عبد الحارث مدنى، وتسببت في إعادة إخراج جثته ومناظرتها من الطب الشرعى الذي أثبت دقة الوقائع المنشورة على صفحات الأحرار مما تسبب في خروج غاضب لجموع المحامين من نقابتهم إلى شارع رمسيس في واحدة من الوقائع الفريدة، وتسبب ذلك في صداع أمني لم يتجاهله النظام لصحيفة المعارضة المشاكسة فكانت الوقائع التالية مخزية للنظام وجماعته. فوجئ الصحفيون فجرا وكنت واحدا منهم، بعدد ضخم من قوات الأمن تحاصر تقاطع شارع الجمهورية مع شارع رشدى، ومحكمة عابدين وكان الظن السائد لدينا في هذا الوقت أن واحدة من القضايا المهمة يتم تداولها بمحكمة عابدين الأقرب إلى مقر حزب وجريدة الأحرار، حتى جاء موعد الهجوم البربرى لقوات الأمن التي زاد عددها في ذلك الوقت على ألف جندى وعدد من جنرالات الداخلية، حيث جرت وقائع اقتحام صعبة التكرار انتهت بإغلاق مقر الحزب واعتقال ثلاثة صحفيين وموظف كنت واحدا منهم. تبين بعد الاقتحام أن قوات الأمن جاءت لتنفيذ حكم قضائى بطرد الحزب من مقره، بدعوى عدم دفعه الإيجارات التي تراكمت عليه ووجه إلى المقبوض عليهم أربعة عشر اتهاما كان أقلها قيادة مظاهرة دون إذن ومقاومة السلطات وهى الاتهامات التي برأتنا منها المحكمة فيما بعد.. انتقل مقر الحزب إلى ميدان المحروقى بالمهندسين لتبدأ مرحلة جديدة من الحصار والتشويه عبر إعلام رسمى وشبه رسمى نال من قيمة وقامة قادة الحزب ولتبدأ مرحلة انهيار جديدة في تاريخه بفعل السلطة. كان شهر أغسطس من عام 1996 م موعدا جديدا وصداما آخر استخدمت فيه كل فنون السلطة لتنفيذ مخطط التفخيخ من جديد عندما نشرت صحيفة الأحرار موضوعا صحفيا عن سهولة التزوير في المحررات الرسمية الصادرة من مصلحة الأحوال المدنية عبر نشر شهادة ميلاد لطفل دون في خانة الأم اسم السيدة جيهان السادات، أما الأب فكان محرر جريدة الأحرار الزميل أحمد فكري. كان دوى نشر الموضوع مذهلا وتردد أن السيدة جيهان السادات تدخلت لدى القيادة السياسية بقولها "اليوم جيهان وغدا قد تكون سوزان" الأمر الذي حدا بالرئيس مبارك الاتصال بزعيم الحزب مصطفى كامل مراد وتعنيفه فلم يكن من مراد إلا أن أصدر قرارا بإقالة مصطفى بكرى من رئاسة تحرير الأحرار وتعيين صلاح قبضايا مؤسسها الأول بعد عودته من رحلة عمل طويلة قضاها بالعاصمة الإنجليزية لندن والعاصمة السعودية الرياض وهو الأمر الذي رفضه بكرى جملة وتفصيلا باعتباره قيادة حزبية مرموقة بحزب الأحرار. تدخلت الأجهزة الأمنية في القضية بإصدار جهاز أمن الدولة تقريرا يفيد بأن مصطفى كامل مراد قام بتعيين قيادة إخوانية لرئاسة تحرير الأحرار.. هنا استفزت بقية الأجهزة للانقضاض على حزب الأحرار، وأوعز صفوت الشريف إلى بكرى بأن الفرصة متاحة للوثوب إلى قمة الحزب فدارت معركة حامية الوطيس انتهت بإصدار صحيفة الأحرار بنسختين يوم 31 أغسطس من عام 1996م بعد أن سيطر أتباع بكرى على مقر الجريدة الذي كان قد انتقل إلى فيلا بميدان حدائق القبة في مواجهة قصر القبة المعروف. بعد ليلة من المعارك، التي استخدمت فيها كل صنوف العنف من قنابل المولوتوف، وصدور الأحرار بنسختين إحداهما برئاسة تحرير بكرى، والأخرى برئاسة تحرير قبضايا، ووصول الحدث إلى قمته التراجيدية، تدخل جهاز رفيع المستوى كاشفا زيف تقرير أمن الدولة خاصة وأن قبضايا كان واحدا من أهم المحررين العسكريين، وواحدا من مصابى حرب اليمن وضل الطريق في حرب 67 وصاحب أول كتاب عن حرب أكتوبر. انتهت المعركة بانتصار مصطفى كامل مراد وعودة الشرعية مرة أخرى إلى الحزب، واستقرار الأمور إلى حد ما بقيادة قبضايا المتزنة والمهنية للصحيفة غير أن الواقعة أعادت الحزب إلى حظيرة الطاعة الكاملة والسير في طريق محسوب ومرسوم.. اعتذر وزير الداخلية للدكتور صلاح قبضايا عن التقرير المزيف في مكالمة هاتفية وسارت الأمور على نحو مغاير لما كانت عليه أيام مظاهرات عبد الحارث مدنى والصداع الذي تسببت فيه الأحرار. بدأت مرحلة جديدة باختراق أمني متواصل عن طريق إدخال عناصر تابعة لجهاز أمن الدولة إلى الحزب، وفى معظم تشكيلاته.. بعد شهور قليلة من محاولة السطو على حزب الأحرار كان مصطفى كامل مراد على موعد هذه المرة مع القدر ومعركة جديدة ليس للزمن فيها يد عندما اكتشف الرجل أن السرطان اللعين قد تمكن منه.. سافر إلى معهد جوستاف روسيه بالعاصمة الفرنسية باريس وعاد منها أفضل حالا. مضت الأيام رتيبة على المخلصين داخل حزب الأحرار، ورغم أن الحزب تحميه المادة 30 من قانون تنظيم الأحزاب السياسية من فكرة الحل إلا أن الجميع كانوا متفقين تقريبا على أن عددا من المسئولين كانوا يشيرون في مكالماتهم إلى فكرة تعطيل الحزب أو تجميده إلى أن استيقظت جماهير الحزب صبيحة يوم 22 من سبتمبر عام 1998م على خبر رحيل زعيم الحزب ومؤسسه مصطفى كامل مراد. عقد المجلس الدائم للحزب اجتماعه وبدأت أيادى الأمن تعبث بمقدرات الحزب ورغم محاولات المخلصين الالتفاف حول الراحل الأستاذ الحمزة دعبس المحامى أحد قادة الحزب، إلا أن قوى الشر الأمنية كانت أقوى فانتهت أسطورة صاحب أول زعامة للمعارضة، وتصارعت عليه أمم من التابعين للأجهزة الأمنية حتى بلغ عدد المتنازعين عليه 13 مدعيا بالرئاسة.. اختفى الحزب من الساحة الرسمية رغم وجود مقرات وأمانات له في جميع المحافظات وظل غائبا حتى عام 2009م عندما اعترفت لجنة شئون الأحزاب برئاسة حلمى سالم له وهو المحسوب على جهاز أمن الدولة. كان ظهور الحزب مرة أخرى على استحياء واحدة من صحوات الموت النهائى.. رحل حلمى سالم وعاد الصراع مرة أخرى ليندثر أول حزب تزعم المعارضة تحت القبة ويظل على حالته التي ينطبق عليها ما يمكن أن نسميه حالة موت دماغى !!