"ضلالات تتسربل بالحنين"، يروج لها البعض خدمة لأنظمة استبدادية أسقطتها الشعوب تساؤلات متعددة، تتطلب مقاربات ثقافية بقدر ما تفرض هذه الظاهرة المثيرة للتأمل نفسها فى المشهد المصرى الراهن، حيث يتحدث البعض عن نوع من الحنين لأيام النظام الاستبدادى الذى رفضه الشعب وأطاح به فى ثورة يناير. والثورات والتجارب التاريخية الواثقة من ذاتها لا تفرض حجرا على أى صوت، حتى لو كانت أصوات من الماضى أو عبرت عن أنظمة أسقطتها الشعوب بتكاليف فادحة، وهو ما يتجلى مثلا فى حالة جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصرى بجرائمه الرهيبة. فحتى على مستوى الإبداع تلاحظ العين أعمالا تنبض بالحنين لنظام الفصل العنصرى "الأبارتيد" مثل المجموعة القصصية الجديدة لريان مالان التى صدرت بعنوان:"الأسد ينام الليلة". ويشعر المرء بدهشة حيال تسامح النظام القائم الآن فى جنوب أفريقيا ومؤلف هذه المجموعة القصصية ينهال هجوما على البطل التاريخى والرمز الثورى الكبير نيلسون مانديلا، ويعدد أخطائه بينما يذهب إلى أن فريدريك دى كليرك آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا هو البطل الحقيقى فى الكفاح لإنهاء نظام الفصل العنصري!. هذا صحفى وقاص ينتمى للأقلية البيضاء، ولايخفى تشاؤمه حيال المشهد فى جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصرى عام 1994، وهذه المجموعة القصصية الجديدة تنبض بالحنين "لأيام الأبارتيد" وصاحب المجموعة الذى تجاوز عمره ال58 عاما، لايخفى العداء للثورة والنظام الجديد، لكنه يجد من يرد على آرائه بالرأى الآخر، ويفند اضاليله المتسربلة بالحنين لزمن اهينت فيه كرامة البشر لمجرد أن لونهم مغاير!. وفى مصر لم تفرض ثورة يناير أى حجر على الأصوات المنتمية للنظام السابق، ولايجوز لها من منطلق الثقة بالذات قبل أى اعتبار آخر أن تعمد لمصادرة أى آراء، فيما تشهد الساحة الثقافية والصحفية والإعلامية والأكاديمية المصرية آراء تنتمى بالفعل لمرحلة النظام الاستبدادى المخلوع. وفى الوقت ذاته طفت تساؤلات على سطح الحياة الثقافية المصرية حول التشخيص الحقيقى لما حدث فى الخامس والعشرين من يناير 2011، وهل كانت ثورة ام انتفاضة ام هبة جماهيرية، أو غير ذلك من المسميات، وظهرت أعمالا أكاديمية تطرقت لهذه المسألة مثل الكتاب الجديد:"الصراع من أجل نظام سياسى جديد". وعن كتاب "الصراع من أجل نظام سياسى جديد: مصر بعد الثورة" لأستاذ السياسة الدكتور على الدين هلال مع اثنين من تلاميذه هما الدكتور مازن حسن والدكتورة مى محب، يقول الدكتور هلال: إن الكتاب يطمح لتحقيق ثلاثة أهداف. الهدف الأول توثيقى وهو رصد وتوثيق أهم التطورات التى شهدتها مصر منذ اندلاع مظاهرات 25 يناير 2011، بينما الهدف الثانى - كما اوضح الدكتور على الدين هلال – تحليلى ويتمثل فى فهم وتفسير الأحداث التى شهدتها مصر فى إطار مفاهيم علم السياسة المتصلة بموضوعات الثورة ووضع الدساتير والنظم الحزبية والحركات الاجتماعية فى سياق عملية الانتقال. اما الهدف الثالث والأخير للكتاب فمقارن، يتمثل فى الإشارة لتجارب الدول الآخرى التى سبقتنا فى عملية التحول الديمقراطى، ومع كل التقدير للمكانة الأكاديمية والفضائل الشخصية للدكتور على الدين هلال فإن التساؤل هنا عن مدى ملائمة قيام صوت قام بدور المنظر أو "العراب" للنظام المخلوع وحزبه البائد بتناول أحداث الثورة عبر الرصد والتوثيق والتحليل والمقارنة مع التجارب الآخرى. وإذا كان الكاتب والباحث الوازن السيد ياسين قد ذكر أنه بعد "كتب متعددة متعجلة كتبت عن الثورة بدأت تظهر كتابات أكاديمية رصينة من أهمها كتاب "الصراع من أجل نظام سياسى جديد" فقد حرص على التنويه بأن مؤلفه استاذ علم السياسة المرموق الدكتور على الدين هلال مع اثنين من تلاميذه وأنه بغض النظر عن "تاريخه السياسى الذى قد يكون مثيرا للخلاف"، فإنه صاحب مدرسة علمية كبرى فى علم السياسة. وأضاف السيد ياسين أنه يمكن اعتبار الدكتور على الدين هلال رائد الدراسات العلمية عن النظام السياسى المصرى، وقد تخرج على يديه عشرات الباحثين ممن اتموا اطروحاتهم للماجستير والدكتوراه تحت اشرافه، مشيرا إلى أن المقدمة التى كتبها الدكتور هلال للكتاب "تقدم نظرية متكاملة فى مجال توصيف الحالة الثورية التى مر بها المجتمع بعد 25 يناير". ولعل هذا السياق أيضا يستدعى كتاب "شهادتى" لوزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط الذى يسرد سنوات عمله كوزير من عام 2004 وحتى عام 2011، فيما اختلفت الآراء حول هذا الكتاب مابين من يراه متعاطفا مع رأس النظام السابق ومابين من ذهب للعكس، معتبرا أن أبو الغيط الذى كان يمجد مبارك فى الماضى قد انقلب عليه فى هذا الكتاب، ووضعه فى صورة الحاكم الذى لم يفلح فى أى شىء بما فى ذلك السياسة الخارجية.