سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رسول الأزهر في الصين.. حكاية أزهري علم الصينيين اللغة العربية.. «محمد ماكين» أسس كلية اللغات الشرقية بجامعة بكين.. اختير عضوا بالمجلس الاستشاري السياسي.. وأنشأ الجمعية الإسلامية الصينية
سنوات تجاوزت عدتها ألفا وستين عامًا وما زال نهر العطاء يفيض بلا انقطاع، في مصر كنانة الله بأرضه منبعه وفيضه، وفي أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين ثمره وفرعه، ألوان وأجناس شتى ولوا وجوههم شطر الأزهر الشريف؛ نهلوا من علوم مشايخه الوسطية المستمدة من سند إجماع الأمة المتصل، ثم عادوا إلى بلادهم دعاة سلام ومحبة، تحيا القلوب إذا ما فاح عبير مسك العلم من أفواهم، لتصدح ألسنة السامعين: "قوموا جميعًا في فم الدنيا وحيوا الأزهرَ". وقبل سبعين عامًا من الآن وبالتحديد في عام 1946 ميلادية، حمل أبناء الأزهر الشريف راية نشر علوم اللغة العربية في بلاد الصين فأسسوا كلية اللغات الشرقية وأنشئوا بداخلها قسما ل"لغة الضاد" وهو ما دعا وزارة التعليم العالي الصينية ولأول مرة في تاريخ البلاد للاعتراف ب"لسان العرب" كلغة رسمية تدرس في المناهج المقررة بمدارسها. رحلة إلى الصين الدكتور حسام شاكر، المنسق الإعلامي لجامعة الأزهر الشريف والمدرس المساعد بكلية الإعلام؛ يسرد لنا تفاصيل هذا الأمر قائلًا: "لن نتحدث عن تأثير الأزهر في مصر، فالجميع يعرفونه لكنني سأصحبكم في رحلة إلى بلاد الصين حيث قرية شاديان إحدى ضواحي مدينة قجيو بمقاطعة يوننان تلك البلدة التي ولد فيها "محمد ماكين" - أو "ما جيان" كما يلقبه الصينيون - عام 1906 ميلادية؛ لأسرة مسلمة من قومية "هوي" والتحق في سن مبكرة بمدرسة تشنغده المتوسطة بكونمينغ عاصمة المقاطعة، ثم رحل عن بلدته إلى قويوان في مقاطعة نينغشيا الواقعة في شمال غربي الصين، حيث تتلمذ على يد إمام ذائع الصيت ليتعلم اللغة العربية، والعلوم الإسلامية". شاكر أضاف: "عام 1929 ميلادية رحل محمد ماكين، إلى مقاطعة شانجهاي، حيث التحق فيها بدار المعلمين المسلمين، وواصل فيها دراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية إضافة إلى اللغة الإنجليزية، حتى أنجز مهمته بتقدير ممتاز في سلوكه وعلمه عام 1931 ميلادية، ثم سافر في ديسمبر من العام ذاته إلى القاهرة في أول بعثة صينية أوفدها مجمع الدراسات الإسلامية في الصين إلى مصر، وظل يدرس في جامعة الأزهر حتى حصل على شهادة العالمية عام 1939 ميلادية". المنسق الإعلامي لجامعة الأزهر؛ أوضح أن الصين كانت في ثلاثينيات القرن المنقضي لا تعترف ب"العربية" كلغة رسمية تدرس في المناهج الدراسية المقررة بالبلاد؛ مشيرًا إلى أنه: "عقب انتهاء محمد ماكين، من دراسته في الأزهر الشريف، عاد إلى موطنه الأصلي وعمل أستاذًا في جامعة بكين، وفي عام 1946 ميلادية اقترح على زملائه "عبد الرحمن ناتشونج" و"رضوان ليو لين روي" -اللذين تخرجا معه من الأزهر- تأسيس كلية اللغات الشرقية في جامعة بكين، وبالفعل نجح في نفس العام بعد أن بذل مع زملائه مجهودات مضنية في تأسيس وافتتاح الكلية، وأنشأ بداخها قسمًا لتدريس وتعليم اللغة العربية". تدريس العربية شاكر أشار إلى أنه عقب تأسيس الكلية وافتتاحها رسميًا اقتبس محمد ماكين، من نظم تعليم اللغة العربية المعاصرة وقواعدها -في ذلك الوقت- وطبقها في عمليات التدريس بالصين وفقًا لأصول اللغة العربية المعمول بها في الأزهر الشريف مع مقارنتها بخصائص اللغة الصينية، ووضع بذلك ما يشبه حجر أساس تدريس اللغة العربية هناك، وسرعان ما نجح في إقناع مسئولي وزارة التعليم العالي الصيني بإدراج "لغة الضاد" في المناهج الدراسية هناك. لم يكن هذا السبق التاريخي والنجاح منقطع النظير هو كل ما حققه "محمد ماكين" في مشواره العلمي -والحديث ما زال للدكتور حسام شاكر- فالرجل لم يتوقف طوال حياته عن التأليف والترجمة، وترك لنا عددًا كبيرًا من الترجمات والمؤلفات أبرزها: "ترجمة معاني القرآن الكريم" ومؤلف "تاريخ العرب العام"، كما أشرف على تأليف "معجم الصينية العربية" و"معجم العربية الصينية" وذلك خلال فترة عمله في جامعة بكين. القيم الأكاديمية الدكتور حسام شاكر؛ أكد أنه بالإضافة إلى ما سبق ترجم "محمد ماكين" إلى جانب القرآن الكريم عدة مؤلفات تمتاز بالقيم الأكاديمية الرفيعة من أمهات الكتب الدينية مثل: "الرسائل المحمدية في حقيقة الديانة الإسلامية"؛ كما سعى جاهدًا إلى توسيع مجالات دراساته ومضامين ترجمته فجعلهما من الأنشطة العلمية الثنائية الاتجاه، فترجم من اللغة الصينية إلى العربية كتب: "الحوار" للحكيم الصيني "كونفوشيوس"، و"الأساطير الصينية" و"الأمثال والحكم الصينية" وغيرهم من مؤلفات التراث الصيني، وأصدر طبعتها الأولى في القاهرة فأثرى المكتبات العربية بتحف نادرة من كنوز الحضارة الصينية. وفي مجال العمل العام اختير عام 1949 ميلادية عضوًا بالمجلس الاستشاري السياسي للشعب الصيني، ثم انتخب نائبًا بالمؤتمر الوطني لنواب الشعب منذ دورته الأولى حتى دورته الخامسة ابتداء من عام 1954 وحتى آخر أيام حياته، وقد كان أحد الدعاة لإنشاء الجمعية الإسلامية الصينية، وعضوًا بلجنتها الدائمة، وهو ما أهله ليكون بشهادة العالم أجمع أكبر العلماء المسلمين، وأشهر الأساتذة المستعربين في تاريخ الصين الحديث، ويمسي نموذجًا مضيئًا من أعلام درسوا في الأزهر الشريف وعادوا إلى بلادهم رسلًا يحملون مشاعل النور ليقودوا بني وطنهم على طريق العلم والمحبة والسلام.