إن الغُربة مثلما تعطيك تأخذ منك أضعاف مضاعفة، ففى وطن غير وطنك يجب عليك الاجتهاد والاعتماد على نفسك فهما سر نجاحك، في الغُربة هناك أن لم تسند نفسك لن تجد من يسندك ولا تنسى أن العمر الذي يفنى والشباب الذي يضيع لا يعوضهما أي مقابل مادى حتى لو كان هذا المقابل ملايين الجنيهات، هل لي أن اسألك بكم تبيع أجمل أيام عمرك ؟. ناهيك عندما تنزل إجازة بعد طول غياب وتشعر إنك غريب بين أهلك، وعندما تتزوج لا تجد أصدقائك حولك فلقد نسيك الجميع إلا القليل ممن لم تشغلهم عنك الدنيا مثلما شغلتك، هل أدلكم على ما هو اقسى وآمر ؟.. عندما تستقبل اتصالا هاتفيا بأنك أصبحت أبًا، تخيل فرحة عمرك كله منعتك الغُربة من أن تشعر بها. ما أصعب أن ترى نفسك في عيون الناس عبارة عن صندوق من المال، فهم لم يشعروا كم دفعت من أجل أن تنال مستوى مادى أفضل من الذي كنت ستناله في وطنك، نعم وطنك الذي كان سببا رئيسيا في غربتك، الغُربة تعنى شعر أبيض في منتصف أو آواخر العشرينات من العمر، الغُربة تعنى إنك منعزل عن عالمك فهناك ناس تولد وناس تموت، أم تبكى بمرارة وهى تهاتفك وتسألك عن أحوالك وتقول لها: الحمد لله، وأنت تعيس وتشعر بالإهانة، أو أن تسمع خبر وفاة أحد أبويك وأنت تدور في مكانك من هول الصدمة ولا تدرى إلى أين تذهب؟، تضيق عليك الأرض بما رحبت تبكى وتجرى مثل المجنون لا تستطيع أن تُقبله القبلة الأخيرة أو أن تقف تستقبل عزاه. هل تدرون ما أفضل تعريف أو وصف للغُربة؟، هو إنك تبيع بضعة سنين من أجمل أيام شبابك حتى تجدُ ما تنفقه على نفسك عندما تشيخ وتكبر ويتملكك الشيب، الغُربة قلق وتوتر والتزام وأرق وتفكير دائم ومسئوليات وطلبات لا تنقطع، الغُربة أن تعود إلى وطنك في الإجازة وتجلس بين أصدقائك وأنت مهندما ترتدى أفضل الثياب وأحدث ماركات الساعات والهواتف النقالة، فمنهم من يحبك فعلا ولا ينتظر منك شيئًا وليس له ذنب أن تشكى إليه مُر ما تلاقيه، ومنهم من سوف يعتقد انك تظن أنه يحسدك على الرفاهية التي تعيش فيها، وكان صديقي متأثرا جدا وهو يقول: صدقني يا صاحبي أن الغُربة تقتل إنسانيتك. إلى هنا انتهى حديث صاحبى أو فضفضته إذا جاز التعبير فما اقسى أن يترك الإنسان أهله وأحبابه، فعلا شعرت من حديثه معى أن الندم يعتصر قلبه على ما مضى وما قد سيأتى وأن الحنين يغلبه والشوق يسيطر على روحه التي تطير في كل وقت لتتحسس أخبار بلاده وبات يهتم بأدق تفاصيلها وأخبارها حتى ولو عن طريق مباراة كرة قدم لم يكن يوما من المهتمين بها أو بحضور أحداثها في الاستاد، نعم شعرت في كل حرف من كلماته أنه مشتاق لكل ذكرياته في شوارع وطنه الذي هجره مجبرًا لا بطلًا. خاجلنى شعور بالشفقه على كل مغترب وأنا اسمعه، مسكين يا من تركت وطنك لكى ترفع مستوى معيشتك، وطنك الذي باعك وخذلك وجعلك تهاجره بحثا عن حفنه من المال كان في مقدورك أن تناله دون أن تتغرب وتبتعد، ما أقسى أن تضيع خيرات وثروات البلاد ويتغرب الشباب بحثًا عن "لقمة العيش" فمنهم من يخطفه الموت غرقًا أو حرقًا، ومنهم من يمرض ولا يجد من يطرق بابه ويطمئن عليه، مسكين حقًا يا من تغربت فلم يرحمك وطنك ولم ترحمك الغُربة.