أهالي «لواءات الغابة» ل«الحكومة»: «خايفين نموت تحت المطرة.. ونفسنا حد يحس بينا أو ييجى يشوف هل عيشتنا دى ترضى ربنا»! الشتاء يدق أجراسه بقوة.. دقات لا يسمع صداها إلا هم ومع ذلك لا يستطيعون تلبية النداء، يستقبلونه مثلما استقبلوا الفصول التي سبقته، فالميزانية لا تسمح لشراء المزيد من البطاطين، ولا أحد يستمع لاستغاثتهم وينقلهم بعوائلهم من هذه المستنقعات التي تنضح أمراضًا وأوبئة. "لواءات الغابة".. باختصار هي منطقة لا تزورها الشمس، فضيق شوارعها وتراكم المساكن البالية فوق بعضها البعض حرم غالبية سكانها من الاستمتاع بأشعة الشمس الدافئة على مدى العام، وهو ما يجعل الأهالي هناك يعلنون في كل عام حالة الطوارئ بمجرد قدوم فصل الشتاء، محاولين تدبير أكبر كميات من الأغطية والملابس البالية التي تحمى أجسادهم من البرد القارس، منتظرين مساعدات أهل الخير، خاصة أن شتاء هذا العام أهل على المصريين بسيول جرفت العديد من المنازل في عدة محافظات، ورياح باردة. داخل غرفة لا تتعدى مساحتها 9 أمتار، يعيش "طارق حسين" مع أسرته المكونة من 5 أفراد، ويشارك 4 أسر أخرى في حمام واحد، وهكذا حال غالبية الأسر جميعهم تجدهم شاردى النظرات يفكرون في حاضر مؤلم ومستقبل لا يتبينون ملامحه. "طارق" مشغول الفكر بأطفاله ال 4 الذين داهمهم الشتاء ولا يجدون ما يستر أجسادهم سوى بعض الملابس المهترئة من كثرة لبسها، ولكنه لا يملك لهم شيئًا سوى الدعاء أن يرسل الله لهم "أهل الخير" ليمدوهم بالملابس التي تبعث لأجسادهم الدفء، وهو ما يصفه بقوله: "من ساعة الزلزال وأنا شغال باليومية والفلوس اللى بكسبها يدوب بتقضى الأكل والشرب، وفى أيام كتير ما بكونش لاقى شغل، ونفسى اشترى هدمتين لأولادى بس ما باليد حيلة". "طارق" يعبر عن أيام الرعب التي يعيشها عند قدوم فصل الشتاء بقوله: "كل ما الشتا بيهل علينا بموت من الخوف في اليوم ألف مرة.. بيقوله السنة دى فيه مطر وسيل وخايف أموت أنا وولادى غرقانين ومن غير ما حد يدرى بينا"، مضيفًا: "كل سنة اطلع أصلح السقف وأشد على عروق الخشب وأحاول أقفل الفروق على قد ما أقدر، ومراتى بتحاول تدفى العيال باللبس القديم، وإحنا ما نملكش غير كده.. هنعمل إيه بقى". "طارق"، بح صوته من كثرة الشكاوى ونداءات الاستغاثة، وهو ما يعبر عنه بقوله: "قدمت 20 شكوى لمحافظة القاهرة، وتعبت من الشكوى والسؤال والمطالبة بحقوقنا، وكل اللى بنشوفه من المسئولين كلام في كلام.. كل يوم يأكدوا لنا إن أزمتنا هتنتهى وأنهم خلاص هيسلمونا شقق جديدة؛ وفى الآخر ما فيش حاجة بتحصل زي ما يكون المسئولين مش حاسبينا بنى آدمين". "محمود شاكر" حاله لا يختلف كثيرًا عن "طارق حسين" فهو واحد من الذين دمر الزلزال منازلهم، وانتقل في ربيعه الثلاثين مع زوجته وأولاده إلى مساكن الإيواء أو "لواءات الغابة" ليقطنوا داخل غرفة حُبست بداخلها أنفاس الأسرة. مرت سنوات "محمود" داخل الغرفة الضيقة، وكبر أبناؤه وتزوجوا في ثلاث غرف بجوار غرفة الأسرة الرئيسية، ليصبح الجميع متشاركين ليس في مصيرهم ومستقبلهم المظلم فقط ولكن في كل شيء حتى الحمام المشترك الذي يستخدمونه، الذي يصفونه بقولهم: "الحمام بتاعنا حتى الكلاب متدخلهوش، نفسنا حد يحس بينا أو يجى يشوف هل عيشتنا دى ترضى ربنا؟". «شاكر» تمر سنوات عمره داخل لواءات الغابة، وأمل الخروج من هذا المدفن - كما يصفه - يتلاشى يومًا بعد الآخر، والشيء الذي يحزنه أكثر كل عام هو معرفته بقدوم فصل الشتاء: "الشتا كل سنة بيزيد برد ومطرة وسيل، والناس هنا ما يملكوش غير إنهم يدعو ربنا يرحمهم". "شاكر" يؤكد، أن: "لولا ستر ربنا كنت مت أنا وعيالى.. كل سنة السقف بيرشح ميه أول ما المطر بينزل علينا.. كل سنة بنغرق.. كل سنة بنصحى من النوم نلاقى الفرش غرقان ميه، ولو في يوم مغرقناش من المطر بنكون مهددين بالموت من الكهرباء اللى السلك بتاعها ممدود على الحيطان وبيعمل ماس في كل البيوت". "أم أحمد"، سيدة تبلغ الأربعين من عمرها، تجلس أمام غرفتها تبيع بعض المواد الغذائية البسيطة "الشيبسى والبسكويت" لتساعدها في كسب عيشها والإنفاق على أبنائها، تستقبل الجميع بابتسامة معهودة، واصفة حياتهم داخل لواءات الغابة، خاصة في فصل الشتاء بقولها: "مش عايزين نعيش هنا تاني.. كفاية كدا؛ إحنا ميتين بالحيا، وفى الشتا السقف بتاع الأوضة اللى عايشة فيها بيكون زى الشلال من كتر مية المطر اللى بتغرقنا، ده غير إن الحمامات غير آدمية، وأنا معايا 4 أسر بأولادى وأحفادى وكل اللى بحلم بيه شقة نعرف نتنفس فيها". "أم أحمد"، تضيف: "لو كان معانا فلوس كنت سيبت هنا وأجرت شقة في أي مكان، بس ضيق الحال مخلينا مش عارفين نعمل حاجة، واتكلمنا كتير وتعبنا من وعود المسئولين اللى مبتّنفذش، وأولادى حاولوا يخرجوا من هنا وأجروا شقة ب700 جنيه في الشهر، بس لما كل حاجة غليت رجعوا تاني". "حسن فضة"، يكمل أحاديث سابقيه بقوله: "الحكومة بعد ما بيوتنا وقعت، نقلتنا إلى مساكن مؤقتة ومن 25 سنة ولا حد سأل فينا، وفى الشتاء بنموت من الرعب وبنفضل يا إما خايفين من الغرق أو خايفين من الموت بماس كهربائي، والسنين اللى فاتت ربنا سترها علينا ونجانا من الحوادث التي وقعت والأزمات التي مرت بينا". "حسن فضة"، يعبر عن استعداداتهم لاستقبال الشتاء هذا العام بقوله: "زى كل سنة.. لما المطرة بتزل مش بنلاقى حاجة تنقذنا غير الحلل والبراميل.. بنجيبها ونحطها على السراير علشان المطر لما ينزل علينا من السقف إليه ما تملاش الغرف، وأدينا نايمين جنب بعض أنا وعيالى بندفى بعض". مساكن الإيواء دار الضيافة حياة لم تعهد الآدمية يومًا، طرقات لا يتعدى عرضها متر واحد، وحجرات تتراص جوار بعضها لا يفصلها سوى حوائط متهالكة أكلت عليها ليالى الشتاء وشربت حتى تصدعت وتساقطت دهاناتها، دورة مياه تشترك في استعمالها خمس أسرة كل أسرة لا يقل عدد أفرادها عن سبعة وخمسة أشخاص، في أعمار مختلفة ولكل دوره ! كذلك المطبخ تتسابق السيدات على الطبخ به قبل الأخريات "بصحى من الساعة 4 الفجر أطبخ وأغسل قبل ما يصحوا ويحتاجوا الحمام أو المطبخ". عندما تمر بالطرقة التي تحوى الخمس حجرات تجد الملابس ملقاة على طول الطُرقة القديمة وسط الحديثة، إن وجدت، تدهسها أقدام المارة، فالدولاب قد اكتظ بما فيه ولفظ البقية بعيدًا. هكذا تبدو مساكن الإيواء، في منطقة دار الضيافة في عزبة سليم، بحى شرق شبرا الخيمة، آوى إليها في البداية نحو 69 أسرة ممن نُفذت ضدهم قرارات الإزالة أو سقط المنزل فوقهم ففروا بما تبقى من أثاث وملابس ومقتنيات. انتقلت قرابة الخمسين أسرة إلى مساكن خصصتها لهم المحافظة بمنطقة بهتيم، ومازالت 22 أسرة تنتظر دورها وعطف المحافظة ورئاسة الحي. قصة أم لثلاث أطفال عزة، السيدة الثلاثينية التي قضت ست سنوات من عمرها بمساكن الإيواء بعد أن كانت تحيا حياة مستقرة، على حد قولها، هي وزوجها بشقة واسعة بمنطقة المنشية بشبرا الخيمة، تقول "بقالنا 6 سنين هنا، جينا من المنشية بعد ما كانت العمارة آيلة للسقوط وأخلوها، وعدونا بشقة خلال شهرين تلاتة وفاتت ست سنين لا حس ولا خبر، إحنا سبع أفراد في أوضة أنا وزوجى و3 أطفال في الأوضة دى المطبخ مشترك والحمام كمان". ويلات الشتاء الشتاء عند "عزة" يختلف تمام الاختلاف ففيه تبدأ الكوارث ويُفتح معه صنبور المصروفات المخصصة لأدوية نزلات البرد التي لا تفارق صدور وأجساد أطفالها، فضلًا عن مياه الأمطار التي تتسرب من سور الشرفة المواجهة لغرفة عزة وتدخل إلى الغرفة مباشرةً فتصيب كافة الملابس والمقتنيات، "إحنا في الشتا بنبقى سقعانين مش عارفين حتى نخرج من الأوضة، 3 شهور الشتا دول بنتحبس زى المسجونين في زنزانة وعيالى التلاتة مبيخفوش من نزلات البرد وتلوث الدم، دى حتى البطاطين مبتكفيناش ولا حد من الحى بيقدم لنا مساعدة، ويوم أسود لو مطرت المية بنلاقيها داخلة علينا وإحنا قاعدين، وحتى لما الحكومة حنّت علينا الشتا اللى قبل اللى فات المحافظ السابق جاب لكل أسرة بطانية وعليها لحد النهارده"، وتضيف ساخرةً: "شكلهم مستنيين لما ندوّب اللى جابوهالنا!". أم محمد تُعرف بين قاطنى الدار بأنها المتحدثة باسمهم المتولية شئونهم حتى الشخصية منها، الجميع يحترمها ويرى فيها "بركة" الدار والأم المُدبرة للأمور الخاصة قبل العامة، تنهر أم تركت صغيرها في البرد دون حذاء وتسأل الأخرى هل أطعمت صغيرها أم لا. لذلك عندما كنت اسأل عن شخص يرشدنى ويفيدنى في رصد الأوضاع بالثلاثة أدوار الخاصين بالسكن، كانوا يقولون لى "اطلعى لأم محمد في الدور الثالث". "أم محمد" سيدة مُسنة تخطت الستين من عمرها، جاءت إلى الدار منذ تسع سنوات بصحبة ابنها وبناته الثلاثة بعد أن أُخلى منزلهم لهدمه على أمل أن يتسلموا شقة في غضون شهور قليلة، فيبدو أن هذا الأمل أدى دوره الوهمى بإتقان وتراقص أمام أعين ال22 أسرة لكنه سرعان ما تبدد وتلاشى بعد مرور أول سنة والوضع كما هو عليه، "بقالنا 9 سنين هنا من وقت ما بيتنا جاله قرار الإزالة، نقلونى أنا وزوجى وابنى بأسرته هنا ووعدونا في خلال شهرين هتكون الشقق جاهزة، زوجى انتظر ومملش لحد ما الموت جاله وإحنا هنا وباينه هييجى لواحد واحد فينا وإحنا لسه هنا". تعتدل في جلستها وكأن الموضوع بدا أكثر أهمية وجدية وتقول "النشرات في التليفزيون عمالة تحذر من درجات الحرارة والسيول اللى احتمال تيجي، المحافظة والحى فين من كل ده طيب شاطرين كل سنتين تلاتة ييجوا يحدفوا لكل عيلة بطانية ويمشوا ميهمهمش العيلة دى عددها قد إيه! ولا هما مستنيين لما المصيبة تحصل زى ما حصل ما أهل رأس غارب!". الحاج فتحي كان يعمل موظفا بأحد مصانع الزجاج، ثم دارت عقارب الأيام سريعًا حتى وجد نفسه قد بلغ الستين وآن له أن يسوى معاشه الذي لا يتعدى السبعمائة جنيه، تختلف حالته عن سابقيه فهو لم يسقط منزله فوق رأسه ولا أُخلى لسبب ما، بالأساس لم يكن له مسكن خاص به، حيث كان يقطن هو وزوجته في منزل أخته ثم انتقلوا بعد ذلك إلى أحد خيام إيواء الدويقة قبل أن يستقر بهم الوضع، أو يحاول أن يستقر، بدار ضيافة شبرا الخيمة منذ خمس سنوات، "كنا قاعدين في شقة في بيت أختى ومقفول بابها علينا لحد ما جوزت ابنها فنزلتنا على تحت في أوضة متاخدش كنبة، رحت اتنقلت لمساكن الدويقة وبعدها جيت هنا"، ويضيف وهو يجلب الضحكة رغمًا عن وجهه العابس "تعبنا من اللّف وهنريحلنا كام سنة هنا!".