أحلام الطفولة لا تميز بين غني أو فقير.. ساكن قصر أو شريد إتخذ من الشارع مأوى له.. هي براءة وآمال في الظفر بأكبر قسط من اللهو واللعب والضحكات تنثر هباتها على قلوب الجميع في كافة أرجاء المعمورة.. الفقر يحرم البعض من تحقيق هذه الأحلام على أرض الواقع، في الوقت الذي يمنح الغنى القسط الأكبر من هذه الأحلام لأطفال يملك ذويهم المال.. ولكن الحاجة لا تمنع الفقراء الصغار من الاستمتاع ببقايا الأحلام، فقد أعطاهم خالقهم القدرة الغريبة والمُحيرة على أن يمنحوا ذرات "التراب" _ حين تلهو به أيديهم _ بريقًا لؤلؤيًا ساطعًا. بالرغم من ملامحي الرجولية التي اكتسبتها قبل أواني بزمن، فيبدو أننا عندما يُقذف بنا إلى الحياة، نكون قد تشكّلنا مسبقًا لنتناسب مع معالمها، إلا أنني مازلت أداعب طفولتي وأراودها عن نفسها، حتى تخرج للحياة وننعم سويًا بصحبة حمار جارنا الأقرب إليّ حتى من أصدقائي، والبلونة البنفسيجية. لتونا عائدون من عند مستأجر "العجلات"، فاليوم هو موعد الفقرات الاستعراضية بالدراجات في أرجاء القرية، يأتي الأطفال والسيدات من أعمار عدة ليشاهدوننا.. ونحن نفقز من فوقها ونقودها واقفين، ونطوّعها لتسع عدد لا بأس به من الأصدقاء.. هذا "الماراثون" بات مقدسًا لدينا. اهترأت أحذيتنا البلاستيكية وغمرها التراب الذي يتراكن بالأمتار بطول قريتنا الصغيرة، من كثرة اللعب اليوم ب"البلي"، فترقبوا نظرات التأهب والتحدي التي تملأ عيني وابتسامة صديقي، تراهنا أنا وهو على أن من سيُغلب يأتي بتسالي اليوم من حلوى ومشروبات غازية، لا يقل صاحبنا الذي يشاهد اللعب تأهبًا عنا. هذا الحائط الخشن ذو الحواف المُدببة يساعدني كثيرًا في التسلق من خلاله ويحافظ على توازن قدماي، عندما اطلقهم لأعلى وأثبت رأسي قريبةً من الأرض.. ينعتونني في القرية ب"الساحر"، فهذه الرياضة التي أمارسها يعدونها غير مألوفة وأني حين أقوم بها، يظنون أن "العفاريت" هم من يجعلونني أحافظ على توازني فلا أسقط، والحقيقة أن الحائط حاد الحواف هو صاحب الفضل. نحن أميرات أحلامنا، ورود يُمزق شوكها حٌلق المُستحيل، لا تمنعنا ظروف القرية وعاداتها من اللعب حالنا كحال الأولاد، نقود الدراجات ونتسلق الجدران ونلعب "الأولى". أنا مُحترفة في قيادة الدراجات، أحيانًا أسبق أصحابي الأولاد وأقود أسرع منهم، فلا أفوّت سباق إلا ودخلته، كل ما اتمناه أن يصبح الطريق بالشارع ممهد لي أكثر حتى لا تتآكل العجلات ويأنبني عمي المستأجر. أما أنا فأحب اللون الوردي، ملابسي وردية وحقيبة المدرسة، حلم ليلة أمس، وكذلك بلونتي فرحت بها للغاية عندما وجدت هذا اللون أخيرًا عند البقّال، حتى نسبت من فرحتي أنني أملؤها بالهواء وأنا مفترشةً كومة حشائش جافة حتمًا ستصيب قدمي ببعض الجروح، لكن لا بأس ستُضمد مع أول تحليق للبالونة في الهواء. كل يوم نأتي إلى هنا لنجد آثار الخطوط التي رسمناها اليوم الماضي لنلعب "الأولى" أو بحبات الحصى الصغير، أخفتها جميعًا أرجل المارة، فنعود ونخطها من جديد ونتراص حول القائد الذي سيبدأ اللعب.. أصبحنا على دراية بأن آثار الأمس لن تنتظرنا للصباح التالي، لكننا كل يوم نرسم على الأرض نشعر وكأنها آخر خطوط ستشهدها ساحة اللعب.. البحث عن الحجارة التي سنلعب بها "الأولى" هو أكثر جوانب اللعبة مشقة وعناء. كم تغمرني السعادة اليوم من رأسي لأسفل قدماي، أشعر بأنني عصفور تعلم لتوه التحليق.. هذا الحبل "البالي" له مفعول السحر لديّ ما إن امسك بأطرافه وأبعد قدمي عن الأرض، حتى يقذفني للأعلى، فأحس السماء تلامس شعيراتي وتصافحها، وأضيع في المُطلق الذي لا اسم له؛ وما هي إلا ثوانٍ قليلة وتعود الأرض لاجتذابي مجددًا.. أهي تعشقني وتشتاق إليّ لهذا الحد. يطلقون عليها "العوامات"، يقولون أنها أحد أركان الرحلة المصيفية الأساسية، أما نحن فلا نعرف ماذا يقصدون بالمصيف وما هو صوت البحر بالأساس.. أيقصدون بالبحر هذه الترعة الصغيرة التي تتوسط قريتنا وتقطعها من مدخلها حتى المخرج!. في الأعياد وأيام الصيف الحارقة نشتري هذه العوامات ونملؤها بالهواء ونعطيها لأصدقائنا الصغار الذين لا يستطيعون السباحة في الترعة دون أداة تحافظ على اتزانهم.. يا من تطل برأسك من فتحة العوامة، سلام عليك.